الرأي

باب ما جاء في المفاكهة الصديقية

لا يترك المبدع الراحل الطيب الصديقي الفرصة، دون تأليف مفاكهاته عن أصدقائه وخصومه من المسرحيين. كان يمزج بين الواقع والمتخيل وبين المسرح ومظاهر المعيش اليومي. لكن قدرته على التلاعب بالكلمات والمفاهيم تتسع، حيث لا حدود بين الجدل والهزل. من ذلك أنه كان يطلق على المسرحي محمد بلهيسي اسم «تازا بلانكا»، لأنه يقيم في مدينة تازة وسرعان ما يحط الرحال بالدار البيضاء لمشاهدة عرض فني أو مواساة صديق. ورأى أن العنوان الذي ينطبق على مركز ازدياده وإقامته هو «تازا بلانكا». أما عن الفنان الكبير محمد حسن الجندي، فقد قال الصديقي: في كل بلاد العالم يوجد تمثال الجندي المجهول، وفي المغرب لدينا جندي «الأزلية» الذي حارب إلى جانب عنترة بن شداد.
لا يستثني نفسه من المستملحات، فقد تعرض لانتقاد شديد من أوساط عدة، على خلفية زيارته لإسرائيل. واقتبس من المثل الشائع: «المومن مصاب» مقولة شهيرة جاء فيها دفاعا عن نفسه: «المومن موساد» على وزن مصاب.
سخر مرة في عرض تلفزيوني من بلدة «زحيلكة». ربما لأنه كان يشعر بالدوار، عندما يمر بمنعرجاتها الملتوية على عنق الهضاب مثل أفعى، أو لأنه كان يعتقد أن اسمها مشتق من التزحلق على الجليد الذي كان يغمرها في حقبة غابرة. واضطر إلى الاعتذار من ساكنتها، بعد أن تناهى إلى علمه أنهم أرسلوا وفدا يرابط أمام مقر وزارة الثقافة لأخذ الثأر منه، لأنه ازدرى بنات زحيلكة عبر زلة لسان. وعاد ليقول أحسن الكلام في رجالها ونسائها، لأن المرء لا يتزحلق سوى من فوق. ثم تغير الاسم في مناسبة ثانية ليصبح «زئيبقة» كناية بالزئبق ذي المنافع العلمية.
كان الصديقي هاوي كرة السلة في شبابه، وسئل يوم كان بصدد تأدية دور في فيلم «الرسالة» للمخرج السوري العالمي مصطفى العقاد، إن كان يهوى ركوب الخيل، فرد قائلا: «من يركب الفرس لا يخشى من العبس». ومع أنه كان عبوسا صارما أثناء التداريب المسرحية التي يبدؤها على إيقاع ساعة مبكرة، فإن المفاكهة لديه يكون لها وقتها بعد انتهاء العمل. وقيل له مرة إنه يتأخر في بداية عروضه المسرحية، بينما هناك من يرفع الشارة في وقت محدد، ويغلق أبواب المسرح. وعقب على ذلك بأنه يغلقها كي لا يهرب المتفرجون أثناء العرض.
بعلاقة مع إبداء مهارته في ركوب الخيل أثناء تصوير مشاهد من شريط «الرسالة»، امتطى ظهر حصان أمام الكاميرا وشرع في أداء دوره، ثم وجد نفسه طريح الأرض. فعلق على ذلك بأن الحصان لا يصلح للتمثيل، لأن حوافره صنعت في القرن العشرين. وعاود الكرة بنجاح وهو يلوح بسيفه، ثم قال فيه إنه يعرف أن «السيف أصدق أنباء من الخطب». وردد بيت الشاعر: «الخيل والليل والبيداء تعرفني»… والسيف والقرطاس والفيلمُ (وليس القلم).
أقر الوزير السابق في الأنباء أحمد السنوسي أمامه، بأنه لو كان يعرف أن أمور التلفزيون ستسوء إلى هذا الحد، لفكر في جلب فرق استعراضية من إسبانيا ومخرجين من إيطاليا ومصورين من أمريكا. فرد عليه الصديقي بالقول: «في هذه الحالة سيكون من حق المغاربة أن يجلبوا وزيرا للأنباء من الهند ورئيس حكومة من النيبال، وبرلمانا من السند». ضحك السنوسي وأهداه علبة سيجار رفيع تقبلها بصدر رحب واستدرك قائلا: هل تعرف بلدا رأسماليا يقوده وزير أول شيوعي؟ تدبر السنوسي السؤال برهة، لكن الصديقي فاجأه بأن صديقه محمد كريم العمراني يعتبر أول مستهلك للسيجار القادم من بلاد الشيوعي فيديل كاسترو. ولم تفارق الصديقي عادة شرب السيجار رغم نكبات المرض والوهن.
قدم ممثل يدعى يتيم من مراكش، التحق بفرقة الصديقي بعد اجتيازه دروب مسرح الهواة وفرقة «الوفاء المراكشية»، صعد مرة إلى الخشبة لتشخيص دور في مسرحية من إخراج الصديقي. وبينما هو منهمك في التمثيل صاح المخرج: «فعلا أصبح المسرح يتيما منذ اليوم». واقترح أحدهم على الصديقي إسناد دور إلى الممثل عائد موهوب الذي كان يتقن فن التشخيص، فرد قائلا: لو كان «موهوبا» لما جاء إلى التمثيل. وأكثر ما كان ينادي به الفكاهي محمد أبو الصواب، الذي كان يرافقه أثناء إقامته في الرباط، هو: «أبو الصواب الذي يخطئ دائما».
أسندت مديرية الإذاعة والتلفزيون إلى العامل محمد طريشة، فسئل الصديقي عن رأيه ليجيب: «هذه طريشة وتات ذا الحنك». واستغل أجواء الحزن التي سادت مراسم دفن الإعلامي العربي الصقلي، في حضور فنانين ومبدعين، والتفت إلى الكاتب أحمد الطيب العلج قائلا: لا داعي لأن نغادر المقبرة ثم نعود إليها في اليوم الموالي، فالحفار بيننا والمقرئون موجودون، وطلب إلى العلج أن يتوكل على الله ولا يؤخر موت اليوم إلى الغد، فانفجر المعزون بالضحك.. إذ كانت له القدرة على تحويل المآتم إلى قهقهات تنسي اللحظة المؤلمة القاسية.
من نوادره كذلك أنه سئل عمن يستفيد من المسرح، فأجاب ذات مساء في حضرة الملك الراحل الحسن الثاني: إنه فلان الفلاني يا مولاي.. فأدرك الملك أن تلاعبا يحدث في تحويل إكرامياته للمسرحيين، ومن يومه حرص على أن يدقق في أسلوب تسليمها إلى المبدعين.
أراد أن يوجه دعوة لحضور عرض مسرحي إلى الفنان عبد الحق الزروالي، فتمنى عليه الأخير أن يرفقها بحجرين يضعهما في جيبه الأيمن والأيسر، كي لا يطير مع رياح الموغادور. فرد عليه الصديقي: حين تعرض في فاس لا تنس أن تبعث إلي بحذاء التزلج على الوحل، كي أقطع الطريق من باب بوجلود إلى باب فتوح.
رحمه الله فقد كان رجل مشافهة ومفاكهة، وإن كانت لاذعة في بعض الأحيان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى