الرئيسية

تاريخ لا يعرف الابتسام عربيا

في الحرب الكونية على الإرهاب، ابتدعت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن مقولة، أن من ليس مع هذه الحرب يكون بالضرورة معاديا لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية. فهم من هذا الطرح أن العدو المشترك للإنسانية هو الإرهاب الذي يضرب في أي مكان. لذلك حشدت الاستخبارات الأمريكية ونظرائها الملتزمين بمناهضة الإرهاب كافة الوسائل الممكنة لاستقصاء وتتبع خيوط الشبكات الإرهابية، ولم تسلم ممارساتها من انتقادات طالت بالدرجة الأولى انتهاكات حقوق الإنسان.
تدخلت القوات الأمريكية عبر تحالفات في أفغانستان والعراق، واهتمت ببناء قوة عسكرية للتدخل في إفريقيا. لكنها ما كادت تطمئن إلى تفتيت جزء من تنظيم القاعدة ومقتل مؤسسها أسامة بن لادن، حتى بدا أن فروعها وامتداداتها زادت اتساعا وتغلغلا. ساعد في ذلك أن الحرب على العراق أدت إلى تجميع أشلاء التنظيمات الإرهابية، فيما منحت الأزمة السورية، في ضوء عسكرة المعارضة وإقبال المقاتلين المحتملين ملاذات جديدة لشتى التنظيمات الإرهابية التي أصبحت تتطلع لغرس جذورها في ليبيا.
إلى وقت غير بعيد كانت الحرب على الإرهاب تعتمد أساليب استقصائية، بحثا عن مراكز تجمع عناصر القاعدة ومناصريها الموزعين في أماكن عديدة. أما اليوم فقد أصبح للإرهاب عنوان بارز اسمه تنظيم «داعش» الذي له فضاؤه، بل «دولته» التي يعرفها الجميع. وبالتالي فإذا كان هذا التجميع يشكل عنصرا مساعدا في تحديد الأهداف، فمن غير المفهوم ألا يترافق ذلك مع تنفيذ خطة استئصالية في مكان وزمان محددين. ومن المستغرب أن الحرب على تنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية استغرقت كل هذا الوقت، من دون أن تظهر لها نتائج ملموسة. عكس ذلك هو ما يحدث، ففي مقابل قيام تحالف دولي يصر تنظيم «داعش» على ابتلاع مساحات جديدة ويضرب «أبناؤه» في أماكن عدة. ما يطرح الكثير من التساؤلات عن جدوى المقاربة المعتمدة إلى حد الآن، ومدى فاعليتها في الحد من هذا «النفوذ الإرهابي» المتزايد.
لندع جانبا الطابع المذهبي والطائفي للصراع الدائر في أخطر منطقة في العالم، باتت خزانا جاذبا ومصدرا للأعمال الإرهابية. فقد أسهم البعد الطائفي في تكييف الصراع، خصوصا بين السنة والشيعة والأكراد في تأجيج المواقف. ومن نجا من بطش «داعش» يجد نفسه في مواجهة عنف الحشد الشيعي. ومن استطاع الإفلات من الاثنين يبحث عن رحمة الأكراد. غير أنه في ظل هذه التركيبة التي أريد لها أن تسيطر على العقول والمواقع يبقى الإرهاب واحدا، وتبقى علاماته الأكثر وضوحا تكمن في بؤر التوتر على الساحتين العراقية والسورية، ثم المجال الليبي المرشح بدوره لخوض التجربة، ما لم تنجح مساعي المصالحة الوطنية لإنقاذ ما تبقى من كيان اسمه ليبيا.
بكل وضوح كان الإرهاب موجودا، مثل أي ظاهرة لها جذور تاريخية في الوعي المتعصب ورفض التعايش مع الآخر، إلا أن حجمه زاد عن القياس القابل للاحتواء بعد الحراك الذي عرفته الساحة العربية، ضمن ما يسمى بالربيع العربي. لا يعني ذلك أن الحراك جلب الانفلات والفوضى والاضطرابات، ولكن الإخفاق في تحقيق أهدافه، المتمثلة في إرساء معالم الدولة الديمقراطية وخيار الحرية والعدالة الاجتماعية وتكريم الإنسان واحترام إرادته وحقوقه، كانت من بين الأسباب التي جرى استغلالها لتوطين مفاهيم وممارسات أشد تطرفا. ولئن كان تجريب وصفة الاعتدال الإسلامي لم يكن على قدر ما كان يعول عليه من إدماج وتعايش بالنسبة لتيارات قائمة، خصوصا تلك التي تنبذ العنف والتطرف، ما أفسح المجال أمام أنواع من البلبلة وردود الأفعال المتعصبة.
في مصر زاد منسوب الأعمال الإرهابية بدرجة لافتة، وفي تونس تستمر محاولات إجهاض التجربة السياسية، أما في العراق وسوريا فالمسألة أخطر بكثير، في انتظار أن يأتي الدور على ساحة أخرى، في حال لم يتم التعاطي والتحديات الراهنة بصرامة أكبر. وكما الحالة الليبية تنذر بعواقب وخيمة، كذلك هي أوضاع اليمن إن لم ينشد طريق الخلاص عبر دعم الشرعية. ولا يبدو بالرغم مما يقال عن استهداف المصالح الغربية من وراء الهجمات الإرهابية أن نيرانها أكثر استعارا في غير البلدان العربية، ما يسقط عن التفسيرات الإرهابية فكرة ارتباطها بمعاداة غير العرب والمسلمين.
لا يريد التاريخ أن يبتسم للعالم العربي، فهو يتدحرج من أزمة إلى أخرى، وفي كل مرة يبدو الآتي أشد خطورة مما مضى. ففي مناسبة ازدياد تمدد داعش قال مسؤول غربي، كيف يطلبون من الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموما أن يحارب نيابة عن القوات العراقية التي لم تصمد في وجه تمدد تنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية. والكلمة لها دلالات كبيرة، تفيد بأن مصدر العجز يكاد يكون عربيا في هذه الحالة، غير أن الأسباب والخلفيات تنحو في اتجاه تداخل عوامل إقليمية وخارجية.
لكن البداية تكون بتحديد المفاهيم، ولعل أخطر مسوغ للحالة العربية هو أن وصف الدولة بات مقترنا بتنظيم إرهابي، أقله أن الإعلام يتداوله هكذا من دون تحفظ. ما قد يشير إلى خلفيات ليس التقسيم بعيدا عنها. ولئن كانت أنماط الظاهرة الإرهابية تطورت مع الأحداث، فلا أقل من نزع صفة الدولة عن تنظيم خارج عن القانون. ما يفرض العمل بجدية على مستوى اجتثاث منابع الإرهاب ومصادر تمويله. ويحق هنا التساؤل كيف يتأتى لتنظيم خارج عن القانون ومطلوب للعدالة الدولية تأمين موارده المالية ودفع أجور المقاتلين المحتملين القادمين من شتى ربوع العالم.
للمرة الأولى في التاريخ يتعرف العالم بأسره على مصدر الداء والمآسي، فيما لا تسير خطوات استئصاله بنفس الحزم والإرادة، مع أنه بات يصدر الكوارث والفواجع في كل اتجاه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى