بانوراما

تخوفات كوبا بعد رحيل كاسترو وتوجس من مجازفات اليميني ترامب

واشنطن: عبد الله زبير
لقد كان قدر الأمريكيين وجيرانهم الكوبيين أن يعيشوا معا ولسنين طويلة تحت وطأة صراع مرير بين أيديولوجيتين متناقضتين تماما؛ ليبرالية يراها ثوريو كوبا متوحشة، إمبريالية، طاغية ومتسلطة على ضعفاء العالم وماركسية-لينينية ينظر إليها الأمريكيون بازدراء وامتعاض شديدين ويرون أنها تمثل فلسفة جوفاء في الحكم وتناقض طبيعة الإنسان الميالة نحو الحرية والفردانية. اليوم، ومع رحيل فيدل كاسترو، الجميع يعبر مرحلة أخرى لا أحد يعلم طبيعتها بعد.

مقالات ذات صلة

في وقت متأخر من ليلة الجمعة ما قبل الماضية، توفي زعيم كوبا الثوري فيدل كاسترو لتتقوى بذلك إمكانية إحداث المزيد من التغييرات بهذه الجزيرة، والتي بدأت علاقاتها مع الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة تشهد تحسنا ملحوظا وبدأ «الجليد الذي تراكم لعقود على علاقة البلدين يذوب». لقد رحل «الأب كاسترو» وعين الكوبيين على ساكن البيت الأبيض الجديد والمستعد، على ما يبدو، لأكبر المجازفات سياسيا. رحل كاسترو في صمت ليترك أنفاسا محبوسة بكلا البلدين وسؤالا واحدا ينتظر إجابة آنية: هل تملك كوبا راؤول ما يسمح لها بالمناورة أمام «الوحش» اليميني دونالد ترامب؟

كاسترو رحل!
جاء خبر الوفاة في بيان قصير تلاه الرئيس الكوبي راؤول كاسترو عبر التلفزيون الوطني فجر يوم السبت أعلن فيه «وفاة القائد الأعلى للثورة الكوبية» تلاه إعلان مجلس الدولة «الحداد الوطني لتسعة أيام». وتباينت ردود فعل الكوبيين تجاه كاسترو. فبينما عم الحزن والصمت سكان العاصمة هافانا لفقدان «زعيم كوبا الأسطوري»، تناقلت وسائل الإعلام الدولية مشاعر الفرح التي أبداها الكثير من الكوبيين المنفيين بولاية فلوريدا الأمريكية تحديدا واحتفالاتهم بنبأ الوفاة.
ولد فيدل كاسترو يوم الثالث عشر من شهر غشت 1926 بمقاطعة «أورينت»؛ جنوب شرقي كوبا لأب مزارع من أصول إسبانية وأم كانت خادمة في بيت زوجة والده الأولى. تلقى كاسترو تعليمه الابتدائي في مدارس مسيحية داخلية بمدينة سانتياغو، قبل أن ينتقل إلى العاصمة هافانا لمتابعة تعليمه الثانوي بمدرسة «بيلين» الكاثوليكية ثم لاحقا بكلية الحقوق بجامعة هافانا ليتخرج منها عام 1945 وتبدأ مرحلة جديدة في حياته وحياة الكوبيين انتهت به رئيسا للدولة الكوبية عام 1976.
تبنى الزعيم الكوبي الفكر الشيوعي ومارسه في كل مناحي الحياة الكوبية، فأصلح الزراعة ومنح ملكية الأراضي للفلاحين وأمم الشركات والمصانع والثروات المعدنية. بيد أنه فرض قيودا كبيرة على الحريات السياسية والمدنية وصادر الحقوق الفردية للكوبيين. ويعرف العالم بأسره فيدل كاسترو بمواقفه الصاخبة، والمضحكة أحيانا، وخطاباته المطولة وبزيه العسكري الزيتوني اللون وسيجاره الفاخر ولحيته الأسطورية وبكونه رمز «الكفاح الأول» ضد «الإمبريالية الأمريكية».
وكان كاسترو قد قاد كفاحا مسلحا ضد سلطات بلاده المتهمة بالفساد والخضوع للولايات المتحدة دام لسنوات قبل أن تحكم قواته الثورية السيطرة نهائيا على الجزيرة الكوبية عام 1959 ليعلن بعد سنتين رسميا «كوبا دولة اشتراكية». وبعد أكثر من أربعة عقود على حكمه المطلق لكوبا وبسبب تدهور حالته الصحية، قرر كاسترو يوم التاسع عشر من فبراير 2008 تسليم السلطة لأخيه راؤول.
في مخيلة العالم، اسم فيدل كاسترو يقترن بفكرة الثورة أساسا، وبدرجة أقل، عداؤه التاريخي للولايات المتحدة. فمن دوايت آيزنهاور أول رئيس أمريكي يقطع العلاقات الدبلوماسية مع كوبا ويدعم عسكريا جيش الديكتاتور الكوبي فولغينسيو باتيستا في مواجهة ميليشيات كاسترو الثورية، وحتى باراك أوباما الذي سعى جاهدا من أجل تطبيع هذه العلاقات برفع القيود تدريجيا على سفر الكوبيين المنفيين وحرية تنقل الأموال بين البلدين وتوجت أخيرا بفتح سفارتي البلدين في العاصمتين هافانا وواشنطن في يوليو 2015 وبزيارة أوباما التاريخية إلى كوبا في مارس 2016، واجه الزعيم الثوري الكوبي فيدل كاسترو 11 رئيسا أمريكيا ليواكب بذلك أكثر من نصف قرن من تاريخ الصراع بين البلدين كانت أشد فتراته، إطلاقا، أزمة «خليج الخنازير» في أبريل 1961، إبان حكم الرئيس الأمريكي جون إف كنيدي. اليوم وهو يرحل عن هذا العالم المتوتر، وأياما معدودات بعد تغيير حقيقي بالبيت الأبيض وانتخاب دونالد ترامب زعيما جديدا له، لا نملك غير الانتظار لنعرف مآلات الأمور بهذه الجزيرة الصغيرة كوبا.

كوبا خائفة من «الوحش» ترامب
يبدو أن رياح السياسة الأمريكية تأبى إلا أن تأتي بالأخبار السيئة إلى مسامع الكوبيين. فوز ترامب يعني «المشاكل لكوبا» وانتظار «أوقات عصيبة». فالجميع يعلم هنا، بهذه الجزيرة الصغيرة، كيف كان يهاجم، وبشراسة، دونالد ترامب المجهودات التي بذلها الرئيس باراك أوباما من أجل تحسين العلاقات بين البلدين وإعادة الأمل إلى قلوب ملايين الناس من الأمريكيين والكوبيين. لقد انتقد ترامب مرارا الاتفاق الذي وقعه أوباما مع النظام الكوبي ووعد بمراجعته، خصوصا في الجانب التجاري منه. ففي مقابلة له شهر أكتوبر الماضي مع القناة التلفزيونية المحلية «سي بي إس» بميامي؛ ولاية فلوريدا، هاجم ترامب إدارة الرئيس أوباما في سعيها لتطبيع العلاقات مع كوبا ووصف الاتفاق المبرم بين الطرفين بـ«الضعيف» وإن صرح، في الحقيقة، بأن «وجود صفقة ما مع الكوبيين هو أمر جيد».
وكان ترامب قد صرح لمحاوره بالقناة «جيم ديفدي» أنه سيفعل «كل ما يمكن للحصول على اتفاق قوي مع الكوبيين، حتى لو كان ذلك يعني وقف أو تجميد العلاقات الدبلوماسية المستأنفة أخيرا، بين البلدين». وفي شهر شتنبر الماضي، وخلال اجتماع حاشد بمدينة ميامي، انتقد ترامب مرة أخرى، وبلغة شديدة، التغييرات السياسية بكوبا، وهو ما اعتبره كثيرون تحولا واضحا عن تصريحاته السابقة، والتي أيد فيها بقوة إعادة فتح العلاقات الدبلوماسية مع كوبا بعد أكثر من 50 عاما من القطيعة. ففي شهر مارس مثلا، أعرب ترامب عن رغبته في فتح فندق بالجزيرة، وقال لشبكة «سي إن إن» الإعلامية إنه «لا يمانع في جلب كوبا إلى الحظيرة من جديد».
ما كان بالأمس القريب تساؤلا مشروعا حول فلسفة ترامب في التعامل مع النظام الكوبي الغامض نسبيا، بات اليوم، غداة رحيل كاسترو، أكثر وضوحا وتعبيرا عن توجهات هذا المشاكس الكبير. ففي أول رد فعل رسمي على وفاة كاسترو، دون الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب السبت الماضي، على موقع «تويتر» تدوينة من ثلاث كلمات جاء فيها «وفاة فيدل كاسترو!» ليصرح لاحقا بأنه سيبذل «كل ما هو ممكن للمساهمة في تأمين حرية الشعب الكوبي بعد وفاة كاسترو» دون أن يعطي أية تفاصيل حول سبل تحقيق هذه الغاية. واعتبر ترامب، الذي سيتسلم منصبه رسميا في 20 يناير 2017، أن زعيم الثورة الكوبية كان «ديكتاتوراً وحشياً قمع شعبه» ولا يعتقد المتتبعون لمجريات الأمور بشأن سياسة ترامب تجاه النظام الكوبي أن نظرته القاسية هذه تختلف كثيرا عن نظرته إلى أخيه راؤول كاسترو.

لحظة حساسة
في حديث لشبكة «سي إن إن»، غداة وفاة الزعيم الكوبي، قال المحلل السياسي «بيتر كورنبله» إن «رحيل فيديل كاسترو لحظة حساسة جدا في العلاقات بين الولايات المتحدة وكوبا»، وكيف أن «الكوبيين -مثل العديد من البلدان الأخرى في جميع أنحاء العالم- لا يعلمون حقا ما يمكن توقعه، وأن لديهم مخاوف كبيرة من السياسات المرتقبة لإدارة دونالد ترامب». وأضاف: «برحيل كاسترو، الأخبار الواردة بهذا الخصوص والتصريحات المعلنة بميامي وكل ما يتحدث فيه ترامب الآن أو يصرح به، ستحدد فعلا إذا ما كانت هذه المصالحة والتقارب بين واشنطن وهافانا سيستمران في حقبة ما بعد أوباما».
في شهر يناير 2015، أفرجت كوبا عن 53 سجينا سياسيا كجزء من صفقة مع الولايات المتحدة لإعادة فتح العلاقات الدبلوماسية مع واشنطن، والتي تمت بشكل كامل في يوليوز 2015 بعد أكثر من خمسة عقود من التوتر والعيش في أجواء الحرب الباردة. فقد باشرت إدارة الرئيس المنتهية ولايته مطلع العام القادم باراك أوباما سلسلة من الخطوات والإجراءات غاية في تخفيف القيود التجارية على المنتجات الكوبية والسماح لمزيد من الشركات الأمريكية ببيع منتجاتها والاستثمار بالجزيرة رغم أن الحصار الأمريكي لم يتم رفعه نهائيا. ويعتقد أوباما أن تطبيع العلاقات مع كوبا قد «يؤدي إلى مزيد من الحريات في المجتمع الكوبي».
بيد أن الرئيس المنتخب دونالد ترامب يحمل رؤية مخالفة تماما ويعتقد أن على «النظام الكوبي الالتزام أولا بتلبية مطالب الكوبيين بالحريات السياسية وإطلاق سراح السجناء السياسيين»، ولا يرى مانعا من مراجعة كل ما قام به أوباما في سبيل إعادة الدفء إلى العلاقة بين البلدين. فخلال تجمع خطابي بولاية فلوريدا شهر شتنبر، صرح ترامب بأن «كل التنازلات التي منحها باراك أوباما لنظام كاسترو تمت بأمر تنفيذي من البيت الأبيض، مما يعني أن الرئيس المقبل يمكنه مراجعة كل هذه القرارات أو إلغائها، وهذا ما سأقوم به إذا لم يتجاوب نظام كاسترو مع مطالبنا»، وقال ترامب للناخبين إن هذه المطالب «سوف تشمل الحرية الدينية والسياسية للشعب الكوبي وإطلاق سراح سجناء الرأي العام».
وأكد «كورنبله» أنه «يمكن أن نتوقع توترات كبيرة إذا ما أدرك الكوبيون أن إدارة ترامب قد تحاول الاستفادة من حالة عدم الاستقرار بكوبا التي قد تتوقعها هذه الإدارة في أعقاب وفاة فيدل كاسترو أو أننا يمكن أن نتبنى بدل ذلك نهجا أكثر عقلانية وأن يفهم الجميع أن ما حصل لا يجب أن يغير، حقيقة، العلاقة بين الولايات المتحدة وكوبا، وبالتأكيد ألا يغير مستقبل القيادة في المستقبل القريب بكوبا».
من جهته، ذكر خوان كارلوس لوبيز، مراسل «سي إن إن» الناطقة بالإسبانية أن «لا أحد يملك تخمينا معقولا لما يمكن أن يحدث في ظل ترامب»، وأنه «ما زلنا لا نعرف من سيكون وزير خارجيته، ولا نعرف كيف ستكون عليه سياسته تجاه أمريكا اللاتينية عموما». وقال مراسل صحيفة «ميامي هيرالد» جلين جارفين إنه «إذا ما تراجع دونالد ترامب عن التغييرات التي أحدثها باراك أوباما، فسوف تعود العلاقات بين الولايات المتحدة وكوبا إلى ما كانت عليه في السنوات الـ50 الماضية».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى