شوف تشوف

الرأي

تعاويذ لدرء «التابعة» الكبرى

على مدى أسبوع كامل٬ نزلت الآلة الإعلامية معززة بمختلف القنوات٬ (محطات راديو٬ صحف يومية وأسبوعيات٬ وكذا شبكات التواصل الاجتماعي إلخ…)٬ لتخليد الذكرى الأولى للهجمات التي استهدفت الأسبوعية الساخرة «شارلي إيبدو٬» والمتجر اليهودي. وقبل يوم واحد على التاريخ المعلوم٬ أي في السادس من يناير٬ أصدرت «شارلي إيبدو» عددا خاصا احتفت فيه بطريقتها الخاصة (مازجة بين استفزاز الرسم ووقاحة الكلمة) بهذه الذكرى، حيث تصدر صفحتها الأولى رسم كاريكاتوري من توقيع ريس يظهر إلها يحمل على كتفه بندقية «كلاشنيكوف» وثيابه ولحيته ملطخة بالدماء. وجاء في التعليق المرافق للرسم ما يلي: «لا زال المجرم حرا طليقا». وفي السياق نفسه مطرقت الآلة الإعلامية ذكري 11 يناير التي يحتفل بها اليوم رسميا، والتي أطلق عليها البعض اسم «المسيرة الشعبية من أجل الجمهورية»، التي خرج فيها أزيد من 4 ملايين من المتظاهرين تنديدا بالإرهاب.. على مدى أسبوع، إذ عرضت على مشاهدنا ومسامعنا وبشكل ببغائي صور الضحايا وبورتريهات المجرمين٬ وبالأخص الأخوين كواشي وكوليبالي. كما جندت الأرشيفات لاستعراض تاريخ «القاعدة» و«داعش»، أتخمت مسامعنا مجددا على الشاشات والمحطات صفارات الإنذار٬ وطلقات النيران خلال المداهمات والمحاصرات… بكلمة كرر التاريخ نفسه ليظهر أن جروح ذاكرة فرنسا لم تندمل بعد وأن التراجيديا أصبحت أحد مكونات التاريخ اليومي للبلد٬ كما أن للتراجيديا وحدها القدرة على لم شمل الفرنسيين من وراء «لامارسييز»٬ النشيد الوطني الفرنسي. لكن يبقى هذا الالتئام علاجا ظرفيا عابرا، إذ على الرغم من الخبط المتواصل لمدة أسبوع، لم يخفق الفرنسيون كما كان مرتقبا لهذه الذكرى التي ذبلت في المخيل المشترك. لم يعد لـ«شارلي إيبدو» نفس الزخم ونفس البساطة والعفوية التي كانت للجريدة من قبل. اخترقها التصدع ونالت من سمعتها سلطة المال ولم يعد «مديح الشتم» الذي تعتمده فلسفة يستهوي الكثيرين.. كما أن انتقال الجريدة لمقر هو عبارة عن قبو سري٬ محمي من طرف قوات الأمن أثر بالغ التأثير على الصحافيين والرسامين الذين رفض بعضهم الاشتغال في هذا المكان. الجريدة التي كان قراؤها بالأمس يتشكلون من «شعب اليسار»، أصبحت تقرأ اليوم في السفارات والقنصليات الفرنسية بالخارج. لم تعد تثير سخرية ولا ضحك أحد، بل تبرم منها السياسيون ورجالات الدين.
ما يفسر أيضا عدم الاهتمام بأحداث «شارلي» والمتجر اليهودي هو أن صدمة هجمات 13 يناير التي ذهب ضحيتها 130 شخصا كانت بمثابة زلزال نفسي٬ اجتماعي وسياسي لم تتعاف منه فرنسا بعد.. ثمة شعور يوحي بأنه لا جدوى من الخروج إلى الشارع للتظاهر كما أن لا حلول سحرية قادرة على إلحاق الهزيمة بـ«داعش» وانتحارييها، وأن الترسانة الأمنية ما هي إلا إثقال لكاهل ميزانية تصرف من جيوب المواطنين.
في ظرف عام تغيرت سيكولوجية وعقلية فرنسا وتغيرت معها سياسة السلطة وطرق تعاملها مع الإرهاب ومع الخوف. إن كانت الهجمات ضد «شارلي إيبدو» الحلقة الأولى من خطة شاملة، فإن السياسية الاستئصالية للثنائي هولاند ـ فالس غير قادرة على وضع حد للإرهاب. في المواجهة بين فرنسا و«داعش»- وخلافا لتصور هولاند- ليست فرنسا في حرب ضد عدو خارجي٬ بل هي في حرب ضد نفسها. ما يطلق عليهم الإرهابيون لا يعدون كونهم فرنسيين. وإن كانوا من أصول عربيةـ إسلامية فإنهم يبقون من طينة فرنسية. أما في ما يتعلق بالميل الشعبي الذي عبر عنه بشكل عفوي الفرنسيون خلال مسيرة العام الماضي، فقد تبين لاحقا أنه كان مجرد وقود وحطب لشبكات التواصل الاجتماعي لا غير ولم يبق منه اليوم سوى الاسم. ماذا تبقى من شعار «أنا شارلي»؟ ألم تكن هذه اليافطة خرافة رومانسية؟ وقد كان عالم السوسيولوجيا إيمانويل طود أول من فضح هذا الوهم الخصيب في كتابه: «من هو شارلي؟»، وهو البحث الميداني الذي خلق الحدث وأسال الكثير من الحبر. وأوضح إمانويل طود أن مسيرة الحادي عشر جسدت بالملموس إقصاء الجمهورية لشرائح عريضة من المواطنين٬ وبالأخص للمسلمين. في الأخير فإن هذه الخرجة الكبرى كانت موجهة ضد المسلمين، يقول إمانويل طود.
لم تبق إذن من روح شارلي ومن روح مسيرة الحادي عشر من يناير، بل وحتى من الذكريات الطرية للثالث عشر من نوفمبر، سوى الأزهار الذابلة٬ الصور الشاحبة٬ أعقاب الشموع٬ زجاجات البيرة أو فتات السجائر بساحة «لاريبيبليك» وبمواقع رمزية أخرى من باريس. هذه العناصر التي دخلت متحفا افتراضيا للذاكرة، كرست ظاهرة جديدة يمكن تسميتها «تقديس وتأبين الأصنام». فكما نمارس نحن في ثقافتنا طقوس تعليق خصلات الشعر بالأشجار أو دق المسامير في جذعها إلخ.. ردا للعين ودرءا «للتابعة». لكن هل التعاويذ والأحجية المعلقة بساحة «لاريبيبليك»٬ أمام المقاهي وفي العديد من المواقع٬ قادرة على طرد «التابعة» الكبرى التي اسمها «داعش»؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى