دين و فكر

تفسير سورة الفاتحة.. مظاهر التحدي في البسملة

د. عبد الجليل العبادلة
مثل نور الله الذي لا مثيل له في عالم المثال، هو ما كشف عنه قوله سبحانه «ليس كمثله شيء» فهو متفرد بخصائصه الإلهية التي حملت من الأسماء الحسنى اسم الرحمن، فالداعي لمن أشرقت شمسه في مرآة ذاته إنما يدعو الله كما أخبر سبحانه في قوله جل جلاله» قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى» فهذا الاسم الأكرم هو المتجلي بالتمام والكمال على قلب خاتم الأنبياء والمرسلين. وهذا هو جوهر حقيقته وسر كل ما ظهر على يديه من الآيات وتحلّى به من الخصائص والمكرمات. ومثله في الواقع تحقيقا أن أبى لبابة الأنصاري حين استشعر بأنه خان الله ورسوله، ربط نفسه بسارية في المسجد وقال: «لا يفكني إلا الله» وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَمَا لَوْ جَاءَنِي لاسْتَغْفَرْتُ لَهُ، فَأَمَّا إِذْ فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ، مَا أَنَا بِالَّذِي يُطْلِقُهُ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ». ومعرفته الكاملة بمقام الألوهية المتفرد بها سبحانه دون الخلق أجمعين، وهذا ما كشف عن جوهره قوله سبحانه «قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى» ويؤكد هذا قول الله سبحانه «ولَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» فاسم الله الرحمن هو في تنزله وفي تجليه سبحانه بالجمال. أما اسم الله فهو أعظم الأسماء وهو الحامل لحقيقة الجلال القاهر الذي حين تجلى الله بلمحة منه على الطور جعله دكا وخر موسى صعقا.
وهذا أمر خبرته في بداية سلوكي الطريق حيث كان التجلي كله جلالي قاهر حتى ضقت ذرعا به، فرجوت الله في مشهد علّي أن يرحمني ويلطف بي، فإذا به يتفضل بأن يرشدني إلى مظهر رحمته سيد الخلق أجمعين في عبارة روحانية يعبر عنها «هذا محمد قادم فالزمه» فتلطف الحال. ومرة أخرى كنت في عمرة ولمّا وصلت المدينة طاب لي الحال والأنس بروضة الروضات وريحانة الفردوس الأعلى فقلت لمن معي: هنا طابت لي الحياة اذهبوا أنتم إلى مكة وبعد أن ترجعوا أرافقكم. فبقي الأمر كذلك حتى قبل الرحيل بساعات وأنا في رحاب هذه الروضة الكريمة. أفهمت هذه الحقيقة: هنا مظهر الجمال، أتريد الفرار من الله في مظهر الجلال؟ فعدلت عن رأيي ورأيت في رحاب الكعبة من آيات الكرم الإلهي ما أثلج صدري وشهدت وحدانية الله حقا، حيث في مشهد الجلال يتلاشى كل شيء في الوجود فأنواره تحجب الكل، فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون. ومن هنا فسر سيدي بحر الصفا الليل والنهار بنور الله الأسود ونوره الأبيض، فسبحان من لا تحيط بعظمته العقول ولا ترتقي الأوهام والظنون إلى بديع جوهر الذات المكنون. هذا وإن كان من فيوضات ونفحات ذي الجلال والإكرام، إلا أن ما تحمله البسملة في بيان جوهر مكنونها بكل حرف من حروفها حقيقة من انتدبه الله لأن يكون مظهرا كريما في تمثيلها حين يصبغه الله بصبغتها، فالدين الحق هو صبغة إلهية «ومن أحسن من الله صبغة» فمن صبغه الله بصبغة أسمائه اسمه الأعظم الله واسمه الأكرم الرحمن، حين يستوي على عرش قلب اسمه الرحيم يدرك معنى سر الباء حين قدمت على ما العادة عند أهل اللغة تقديم الفعل على الجار والمجرور، فيقال: أقرأ بسم الله، كما يقال أكتب بالقلم، فالباء كما ذكر المفسرون وما تحمله في اللغة من دلالات قالوا إما أن تكون الباء للاستعانة أو الملابسة وهذان مقامان كريمان، فالاستعانة فيها إشارة إلى مقام المراقبة حيث يشهد نفسه عاجزة عن القيام بكل ما تكلف به فيحتاج إلى العون، وهو يعلم يقينا بأن الله وحده هو الذي قادر على أن يكفيه ويسدده بالقول والعمل ليكون صالحا ومتقبلا عنده. أما المعنى الثاني ففيه الإشارة إلى مقام الإحسان وهو مقام المشاهدة ففي مشاهدته وتلبسه بصبغة اسم الله الأعظم واسمه الرحمن والرحيم الأكرم يتلاشى شهوده لنفسه فلا يشهد إلا حقيقة هذه الروح التي خاللته حين صار نورا محضا ولم تعد البشرية غير حجاب لا تمنع من ظهور أثر هذا النور، بل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى يتلألأ نوره في الجدر، ومنها ما طلبه الطفيل بن عمرو الدوسي من النبي صلى الله عليه وسلم، طلب منه أن يرسله إلى قومه ويجعل له آية. قال ابن حجر: «سبب تسمية الطفيل بذي النور أنه لما وفد على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فدعا لقومه قال له: ابعثني إليهم واجعل لي آية، فقال: اللهم نور له، فسطع نور بين عينيه، فقال: يا رب أخاف أن يقولوا مُثْلَةٌ (مرض وعقوبة)، فتحول إلى طرف سوطه، فكان يضيء له في الليلة المظلمة». وكما سرى في عصا موسى فصارت حية صورة وإن اختلفت عن كل الأفاعي حقيقة بخصائصها حتى ابتلعت كل الحبال والعصي وإحالتها إلى العدم والفناء ولو وضعت عصا في جوفها أي حية سواها لماتت على الفور فسبحان من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

مقالات ذات صلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى