الرأي

حبيبي إيلان

الآن صار بإمكانك أن ترتاح من كل شيء، من ألم الجوع والدموع، فقد مر وقت طويل لم تنعم بنوم هانئ، فلا صراخ هناك ولا قصف، لا تهجير ولا لجوء، لا شيء سيوقظك فَزِعا ولا شيء سيحثك على المشي المرهق.
ستبتسم، هكذا أتصورك الآن، فقبل أن تغط في نومك الأخير، خلَّدَت بعض صورك ابتسامتك الأبدية في وجه الدمار والعذاب واليأس، في وجه من قتل أحلامك وأحلام كل السوريين، في وجه القذائف والبراميل المتفجرة..
ستبتسم، وتسأل ما الذي جعلنا نفطن لوجودك الآن بعدما غادرت؟ الجواب، يا حبيبي، أقسى وأمر، فالظاهر أننا لا نهتم بشيء إلاَّ إن كان جميلا وتوافق مع مزاجيتنا المتقلبة البلهاء، فحتى في الموت ننتخب ما طاب لنا من الصور الجميلة، فلم يأبه العالم لكل الجثث المتراصة على رصيف التاريخ، لم ينتبه للدماء المتخثرة ولا الأشلاء المتناثرة، لم يؤثر فيهم شيء قدر ما أثر فيهم نومك الهادئ.. ربما شعروا بالخزي من نومهم الثقيل، لذلك بادروا لذرف الدموع، ككل مرة. لكن ماذا بعد؟ تم فتح تحقيق وتم اعتقال بعض المهربين المسؤولين عن وفاتك، لكن لم تتم الإشارة لمن كان سببا في تهجيرك، لمن كان سببا في لجوئك، فدائما ما يتم البحث عن كبش فداء يوهم بأن العدالة تحققت، وما تحقق غير الظلم. لم يفكروا بكل الأطفال الذين لفظهم البحر، ولا النساء والشباب والشياب، ولا المعافين والمرضى.. أود أن أخبرك بالشيء الكثير لكني لا أريد أن أرهقك فأنت مجرد طفل جميل يسائل بكل هدوء إنسانية نسبية متقلبة وذاكرة معلقة. أخجلتنا، وأخجلت الموت، فكان بك أرحم منا، حين حملك على دمعه المالح.
حبيبي إيلان، هناك ستجد الكثيرين والكثيرات ممن سبقوك، ستجد حمزة الخطيب، سلم عليه. ستجد وسيم زكور، ذاك الطفل الذي فقد والديه وظل تائها بسوريا، يأكل من البقايا، ويجر خلفه كيسا كبيرا ممزقا منتعلا حذاء والده الكبير الذي يحمل خوفه وارتعاشاته كل لحظة، كلما جن الظلام، واشتد القصف، لم ينتبه له الكثيرون حين أراح جسده المنهك مثلك على الأرض، في مثل وضعيتك حين استسلمت للنوم الأبدي، سلم عليه كذلك. ستلتقي بذاك الطفل الذي قال قبل وفاته: سأخبر ربي بكل شيء، اسأله إن كان قد أخبر الله بكل ما شاهد من عذاب؟ وذكره إن كان أنساه اللعب، ذكّره بأن يخبر الله عن وصمة عار تكتب على جبين كل العالم بدمائكم ودموعكم.
وإن حدث والتقيت غسان كنفاني، قل له إن لا شيء تغير، وإن اللاجئين ما وصلوا لشط العرب وما اجتازوا الصحراء، وإن الكثيرين لقوا حتفهم، وأن الخزان كان أسوأ هذه المرة مما صوره في روايته «رجال في الشمس»، وإنهم كانوا رجالا ونساء وأطفالا لم تقبل بهم الأراضي ولا حرفا ظنوه موطنهم الواسع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى