الرأي

خراج غيمة الانتخابات آت

تحت خيمة نصبت إلى جانب مثيلات لها، بعضها تفوح منه رائحة الشواء والدخان ونسائم النعناع، وبعضها يعج بالمواد الغذائية الاستهلاكية، من زيت وسكر ودقيق وصابون وشموع، إضافة إلى أكياس العدس والحمص وأنواع القطاني.. جلس مستشار يستظل من حرارة الشمس في سوق تلتئم مرة كل أسبوع.
ارتدى لباسا عاديا، واقتعد كرسيا إلى جانب طاولة شبه مهترئة، وضع عليها أكوام أوراق مالية من فئات مختلفة. كان يحيط به عدد محدود من الأشخاص الذين يرافقونه في مثل حله هذا، يعرفون جيدا سكان المنطقة بأسمائهم ودواويرهم وأنسابهم. على كناش صغير الحجم سجل أحدهم استبيانات الأشخاص الذين اصطفوا أمام الخيمة، في انتظار أن يأذنوا لهم بالدخول واحدا بعد الآخر.
تقدمت سيدة عجوز تحمل بيدها التي ترتعد وصفة دواء، قالت إنها عاجزة عن تأمين مبلغ اقتنائه. طمأنها المستشار بأن الأمر بسيط، أخذ منها الوصفة وقدر بأن سعر الدواء لا يزيد عن مائتي درهم. ناولها إياها وهو يردد: «في المرة القادمة اسألي عن ثمن الدواء بالتدقيق. وسأكون في الخدمة لأدائه كاملا مكتملا»، وتمنى لها الشفاء، بينما راحت السيدة العجوز تلهج بالدعاء أن يحفظ الله المستشار من عيون الحساد، وأن يكتب له قصرا في الجنة جزاء أفعال الخير التي يجود بها بسخاء في الدنيا الفانية.
ابتسم المستشار ونادى على صاحب الدور الثاني. كان مزارعا بسيطا شكا من أن محصوله لهذه السنة لم يسعفه في تأمين حاجياته من الغذاء والدواء. كان يعرف القاعدة، لهذا قدم فاتورة بأرقام صغيرة محددة، قال إن صيدليا في أقرب مركز إلى دواره تولى احتساب أسعار الدواء. كما في المرة الأولى لم يكن الرقم يتجاوز الورقة الزرقاء التي أسعدت سابقته إلى خيمة البر والإحسان والصدقة الجارية.
تواصلت العملية، كما أريد لها أن تقدم المستشار اللبيب في صورة فاعل الخير الذي يجزل العطاء على الفقراء والمعوزين. ينتظم ذوو الحاجة أمام الخيمة في مواعد محددة. يتدافعون حول من له الأسبقية، مخافة أن تنفد الأوراق المالية، وينهون زيارتهم بالتوجه إلى أقرب صيدلية، أو التبضع من السوق على قدر ما تسمح به الدريهمات. ولا أحد يعترض أو ينتقد، فالمستشار حر في أمواله، وهو لا يفعل أكثر من تزكية ثروته بهذه الطريقة، خصوصا وأنه لا يطلب إلى زواره أي مقابل ملموس في لحظة العطاء.
هذه واحدة، وإليكم الثانية: يغيب المستشار عن الأنظار حتى يصبح أقرب إلى الهلال، ثم يطل عندما ينشغل الناس بأضحية العيد. ومثل قائمة المعوزين الذين يقدم لهم كلفة شراء الأدوية، يضع معاونوه قائمة أخرى بأسماء الأشخاص الذين سترسو عليهم عملية منح خراف العيد التي يرفقها المستشار بما يسمح بشراء توابله وفحمه وبعض لوازمه.
خمسون أو مائة خروف أو أكثر ليست شأنا كبيرا، بالنسبة لرجل ثري يملك ضيعات زراعية. وأكبر منها رمزية الحدث الذي يضفي على شخصه أوصاف الكرم وخصال المحسنين وتصرفات المؤمنين. ولا يوجد قانون أو إجراء يمنع على الأغنياء إهداء أضاحي العيد، إذ تشتد وطأته على الناس الذين لا يملكون ما يدخل البهجة على الأبناء زينة الدنيا.
في أي مناسبة يكسوها الفرح أو يغلفها الحزن يكون المستشار حاضرا. يداهم البيوت حين لا تتوقع حضوره، ويغدق على القوم حين تجف منابع الرحمة. يعمل بقاعدة أن «الطاجين» الذي يأكل منه أربعة أشخاص، يمكن أن يتلذذ بطعمه ثمانية، ولهذا يوزع أموالا قليلة على عوائل كثيرة، ويعرف أن الدرهم الأبيض يتضاعف قدره في اليوم الأسود. ما كل الأيام سوداء أو بيضاء، ولكن بعض مبادراته تدخل الفرح على نفوس أعداد من السكان، هذا على الأقل ما يتصوره.
هذه ثانية، أما الثالثة فلا يمكن أن يقوم بها إلا مستشار متمرس في استمالة العواطف، واستغلال حالات ضعف بعض الناس. فقد تعاقد مع إحدى شركات التأمين على أن تتولى تسهيل إجراءات عملها لفائدة أصحاب سيارات الأجرة من النوع الكبير، التي تتحرك لتقريب المسافات داخل المدارات الحضرية وربطها ببعض الأرياف. وهمت الإجراءات تقسيط دفع التكاليف وخفضها إن أمكن، حيث يتولى المستشار نفسه مرة كل سنة دفع الكلفة التي قد تشمل ما بين عشرين أو ثلاثين سيارة في أكبر تقدير.
وإذا حان وقت نقل السكان القرويين إلى تجمع خطابي، لا يتردد أصحاب سيارات الأجرة في القيام بالواجب، اعترافا بجميل صاحبنا، من دون إغفال إعادة الحاضرين إلى دواويرهم في نهاية الاجتماع، مزودين بما يكفي من الشحن الفكري والسياسي، لكن ذلك يتم خارج فترات المنافسات الانتخابية التي تسمر فيها العيون على أنواع التجاوزات. وإلى أن يفهم الناس سلوك وخلفيات منتخبين، يكون صاحبنا قد برأ ذمته من أي تصرفات تمسكه ويده في الجيب. فهو يختار متى يضعها في جيبه عند فترات التراخي.
لا يحتاج المستشار إلى القيام بحملات مستعرة في سوق المزايدات، فقد فعل ذلك في غفلة من الجميع. وهو الآن يسترخي على الشاطئ أو يتمتع بأيام عطلة، مرددا وهو يتأمل غيمة السماء، بأن خراجها آت لا محالة.
ماذا تقولون عن نزاهة الانتخابات وعدم استخدام المال؟ وإن حدث تشابه في سرد الوقائع فذاك مجرد صدفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى