الرأي

خيارات العرب أمام الصعود الإيراني

في الحوار مع إيران نجح الأمريكيون، في ما فشل فيه العرب، وذلك وضع مقلوب لم يعد هناك مفر من تصحيحه.
(1) بعد الاتفاق الأخير الذى قادت فيه الولايات المتحدة المفاوضات مع إيران، لم نعد نملك ترف الانتظار والمراهنة على الوقت الذى ثبت أنه ليس في صالح العرب، إذ رغم تقييد البرنامج النووي الإيراني لأكثر من عشر سنوات، إلا أن أحدا لا يستطيع أن ينكر أنها فازت بالكثير من الاتفاق الذي جرى توقيعه في فيينا يوم 14 يوليو الحالي.
وبحل العقد الذي استغرق 21 شهرا من المناقشات والشد والجذب، فإن ما حققته إيران لا يشكل علامة فارقة في مسيرتها فحسب، ولكنه سوف يحدث تحولا جذريا في الخرائط السياسية للشرق الأوسط بأسره، وهو ما يفرض على الدول العربية أن ترتب أدواتها، وتعيد النظر في حساباتها لكي تتعامل مع الموقف المستجد بما يستحقه من رشد ومسؤولية؛ ذلك أن إيران إذا كانت في موقف القوة في الوقت الراهن، وهو ما مكنها من الصمود والاستمرار في المناورة والمحاججة مع الولايات المتحدة والدول الكبرى طوال 12 سنة، فإن تلك القوة ستتضاعف بعد الاتفاق.
فذلك البلد الذي وصل عدد سكانه إلى ما يقرب من ثمانين مليون نسمة يملك قراره منذ قامت الثورة الإسلامية في عام 1979، وتلك ميزة كبرى.
ورغم الحصار، فإنه استطاع أن يطور قدراته العسكرية والعلمية، واستفاد من الوهن العربي حتى مدد نفوذه في أربع دول عربية (العراق ـ سوريا ـ لبنان ـ اليمن)، وبعد الاتفاق ورفع العقوبات، فإلى جانب دخوله إلى النادي النووي، فإنه سوف يسترد 120 مليار دولار مجمدة له في الخارج، وسيعود إلى معدله الطبيعي في إنتاج النفط، بحيث يتاح له أن ينتج أربعة ملايين برميل يوميا، بدلا من مليون ونصف المليون فقط أثناء الحصار، من ثم سيحتل مكانته، رابع دولة منتجة للنفط في العالم، وثاني دولة تملك احتياطي الغاز، وهو ما يفتح الباب واسعا أمام إيران في المستقبل لكي تصبح قوة اقتصادية يعمل لها حساب، وإذا أدركنا أن ذلك سوف يضاف إلى قوتها السياسية العسكرية، فلا غرابة في أن يسوغ ذلك ترشيحها كي تصبح الأقوى نفوذا في المنطقة، والأقدر على مواجهة الخطر الذي أصبحت تمثله جماعة داعش ومشروع الدولة الإسلامية التي ادعت إقامته، ولا أستبعد ما قيل من أن هذا العامل بالذات من الأسباب التي شجعت الولايات المتحدة على إبرام الاتفاق مع طهران، والتعويل عليها في إجهاض مشروع داعش، الذي فشلت الدول العربية المعنية في وقف تمدده في المنطقة.
الطريق أمام إيران ليس سهلا، ذلك أن تداعيات الداخل لم تتبلور بعد، فضلا عن أن علاقاتها مع العالم العربي تحتاج إلى ترميم، تتحمل طهران قدرا من المسؤولية، ويتحمل العالم العربي قدرا آخر، إذ لا يشك أحد في أن الاتفاق سوف يستنفر التيار المحافظ في إيران الذي لايزال عند موقفه من «الشيطان الأكبر»، كما أنه سوف يرجح كفة التيار الإصلاحي، وسوف تتضح الصورة أكثر خلال الانتخابات التشريعية التي تجرى في شهر فبراير من العام المقبل، علما بأن مصطلح الإصلاحيين في إيران يشمل طيفا واسعا من التيارات الليبرالية والقومية والإسلامية التي تختلف مواقفها إزاء مشروع الثورة الإسلامية والعالم العربي والولايات المتحدة وإسرائيل.
في هذا الصدد، فإنه لا يستطيع أحد أن يتجاهل التعقيدات الكامنة في علاقة إيران بالعالم العربي، ذلك أنه في السنوات الأولى للثورة التي رفعت فيها السلطة الإيرانية رايات الانحياز للمستضعفين والدفاع عن القضية الفلسطينية، كانت مشكلة إيران مع أغلب الأنظمة العربية، إلا أن الموقف تغير الآن بحيث أصبح لإيران مشكلاتها مع أغلب الشعوب العربية، وليس الأنظمة فقط؛ إذ رغم تقدير كثيرين لموقفها إزاء القضية الفلسطينية، فقد تراجع التعاطف الشعبي العربي مع إيران لأسباب عدة، بينها تمددها في العراق، ومساندتها لنظامها الطائفي المعادي لأهل السنة، إضافة إلى الجهود التي يبذلها المنسوبون لاختراق المجتمعات السنية منها، أيضا مساندتها للنظام الوحشي في سوريا إلى حد ضلوعها في الحرب ضد إرادة الشعب السوري بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ومما حسب على إيران كذلك، وسحب من رصيد نظامها، مساندتها لانقلاب الحوثيين، الأمر الذي أحدث ذعرا في منطقة الخليج، وأدى إلى إدخال اليمن في دوامة الفوضى التي تكاد تضمه إلى قائمة الدول الفاشلة.
هذه ممارسات تحتاج إلى تصويب وترشيد من جانب طهران، ذلك أنها لم تشوه صورة إيران في العالم العربي فحسب، ولكنها أيضا أساءت إلى قيم الثورة الإسلامية ذاتها؛ إذ أزعم أن فيها من طموحات الدولة ومشروعها الطائفي بأكثر مما فيها من القيم التي بشرت بها الثورة وأيدتها أغلب الشعوب العربية عند انطلاقها في عام 1979.
إذا كانت أسهم إيران في صعود نسبى، فإن أسهم العالم العربي (المشرق تحديدا) تتجه إلى التراجع والهبوط، بحيث أصبح في أضعف أحواله؛ إذ صرنا بإزاء جسم بلا رأس، لا يعاني من الهزال فحسب، ولكنه صار معرضا للتآكل بعد انهيار اثنتين من أهم دوله هما سوريا والعراق، وإشاعة الدمار والخراب في دولتين أخريين، هما اليمن وليبيا، ناهيك عن أن قضيته التي كانت «مركزية» يوما ما -فلسطين إن كنت نسيت- كادت تسقط من أجندة الأنظمة.
إلى جانب ضعفه وانفراط عقده، فإن العالم العربي ظل جزءا من استراتيجيات الدول الكبرى، الأمر الذى أفقده رؤيته الاستراتيجية المستقلة، حتى «العدو» اختلفوا حوله، إلى الحد الذي ادعت في ظله إسرائيل بأنها منحازة لأهل السنة ضد التطرف الشيعي، وأنها عنصر نشط.
حين أصاب الوهن الجسم العربي، فإن ذلك أثر على وزنه الاستراتيجي في حسابات الدول الكبرى، وقرأنا ما كتبه في هذا الصدد مايكل هايدن الرئيس الأسبق للمخابرات المركزية الأمريكية، إذ اعتبر أن خطر الشرق الأوسط أصبح أمرا ثانويا في نظر الولايات المتحدة، التي أصبحت ترى أن الصين تمثل الخطر الأكبر الأجدر بالاهتمام، ولا غرابة والأمر كذلك في أن تراهن واشنطن على دور لإيران في إدارة الصراع بالشرق الأوسط، غير مكترثة بمخاوف وانتقادات الأصدقاء والحلفاء التقليديين في المنطقة، وغاية ما فعلته أنها اكتفت بإرسال وزير الدفاع الأمريكي لزيارة بعض عواصمها، وتطييب خواطر المسؤولين الغاضبين منها.
كيف سيتعامل العالم العربي مع إيران في وضعها المستجد؟ بافتراض أن الأمور ستمضي كما خطط لها، أعني إذا نفذ الاتفاق، ولم يتعرض لانتكاسة تستعيد الخصام وتجهض أمل التفاهم والوئام، فإن العالم العربي إزاء التشكيل الجديد في خرائط المنطقة، الذي سيترتب على الصعود الإيراني، سيكون مطالبا بأن يحدد إزاءه موقفا واضحا.
في هذا الصدد تلفت النظر مفارقة شهدتها منطقة الخليج أخيرا، ذلك أنه في أعقاب توقيع الاتفاق، سارعت دولة الإمارات إلى تهنئة طهران على الإنجاز الذي تحقق، وأعقبتها الكويت، إلا أن المملكة العربية السعودية انتقدته بشدة، حتى كتب رئيس تحرير الشرق الأوسط -التي تعبر عن وجهة نظر الرياض في قضايا السياسة الخارجية- مقالة في اليوم التالي مباشرة، كان عنوانها «الاتفاق النووي يفتح أبواب الشر».
وإذا تذكرنا أن موضوع الجزر الإماراتية الثلاث، التي اتهمت إيران باحتلالها ظلت طوال الثلاثين سنة الماضية مصدرا لاشتباك مستمر مع طهران، قادته دولة الإمارات، وتضامنت معها بقية دول الخليج، فستجد أن مسارعة أبوظبي لتهنئة طهران بالاتفاق عبرت عن تطور مهم في التفكير السياسي، وفي الوقت ذاته، فإنها جاءت دالة على الاختلاف في التقييم والمواقف بين أبوظبي والرياض.
الملاحظة الأخرى المهمة في هذا الصدد، أن إسرائيل التي أدانت الاتفاق ورفضته، وجدت أنها أصبحت تقف مع السعودية في مربع واحد، وقد شاهدت على شاشة التلفزيون أحد الصحفيين الإسرائيليين وهو يلوح بمقالة رئيس تحرير الشرق الأوسط، لكي يؤكد أن ثمة معارضة عربية للاتفاق، وفي الحديث الذي نسبته «الجيروزاليم بوست» إلى رئيس الاستخبارات الإسرائيلية السابق «شبتاي شافيت»، قال الرجل إن إسرائيل لديها فرصة للاشتراك مع السعودية في إقامة ائتلاف تشارك فيه دول الاعتدال العربي؛ لأجل إقامة النظام الجديد لمنطقة الشرق الأوسط، ولئن كانت تلك مجرد رؤية أو أمنية إسرائيلية، إلا أنها تدعونا لاستعراض السيناريوهات والخيارات المتاحة أمام الدول العربية في ظل الوضع المستجد.
هذه السيناريوهات ثلاثة هي:
< الإبقاء على الوضع الراهن كما هو، بحيث يستمر العالم العربي في الانكفاء على ذاته والاستغراق في الحرب ضد الإرهاب، مع ترك المجال لكي تحدد كل دولة سياستها الخارجية في ضوء تقديراتها وحساباتها الخاصة، وهو ما يعنى استمرار تمدد النفوذ الإيراني في المزيد من الدول العربية على الصعيدين السياسي والمذهبي.
< إعلان الاستنفار، واحتشاد بعض الدول العربية؛ لمواجهة القوة الإيرانية الصاعدة، بدعوى تشكيل محور سني في مواجهة المد الشيعي، وستكون المراهنة في هذه الحالة على دور تركيا والسعودية لقيادة ذلك المحور، وذلك يعني أمرين كل منهما أسوأ من الآخر، أولهما الدخول في حرب مذهبية مفتوحة تعيد إلى الأذهان الصراع الصفوي العثماني، الثاني يحقق لإسرائيل حلمها الذي يمكنها من اصطياد أكثر من عصفور بحجر واحد، من ناحية، لأن ذلك يضمها إلى النسيج العربي باعتبار أن الجميع يواجهون خطرا مشتركا، ومن ناحية ثانية، فمن شأن ذلك أن يسقط القضية الفلسطينية تماما من الذاكرة، ويمكن إسرائيل من إنجاز مهمة ابتلاع كامل التراب الفلسطيني، من ناحية ثالثة، فإن ذلك يؤدي إلى إنهاك إيران بما ينصب إسرائيل القوة الأولى في المنطقة.
< الخيار الثالث يتمثل في إعمال العقل العربي للسعي إلى التفاهم مع إيران؛ أملا في ضم قوتها المتنامية، لتصبح رصيدا مضافا إلى قوة الأمة العربية والإسلامية، لها وليس عليها، ورغم أن عناوين كثيرة وخطوات عدة يفرضها ذلك الخيار، إلا أنني أزعم أن تحقيق ذلك الهدف ليس أمرا مستحيلا إذا توفر له الحكماء والخبراء الذين لم يندثروا بعد في العالم العربي، وبوسع هؤلاء أن يحددوا نقاط الاتفاق والاختلاف، والعاجل والآجل في ما ينبغي أن ينهض به الطرفان العربي والإيراني، علما أنني أزعم بأن ما بين العرب والإيرانيين الذين تربط بينهم أواصر العقيدة والجيرة والتاريخ، أفضل بمراحل مما بين الأمريكيين والإيرانيين.
هذا الخيار الأخير أحبذه، وأدعو إليه، وأفهم أن عقبات عدة تعترض طريقه، من بينها أن تصالح الأنظمة العربية مع إيران قد يستلزم إجراء مصالحة مسبقة بين تلك الأنظمة وشعوبها، وأخشى أن تكون المشكلة أكثر تعقيدا من أي مشكلة أخرى نتحسب لها في الآجل المنظور على الأقل، وتلك مشكلة عصيبة ومعقدة، ليتنا نجد لها حلا قبل فوات الأوان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى