الرأي

ركائز السعودية: سادت وشاخت… وما بادت! (2/2)

في هذا السياق، أو ضمن خيارات هذا المزيج، ارتأى ابن سعود توفير «سلطة» ما، مرئية، دينية ودنيوية معاً، للمؤسسة الدينية الوهابية؛ فكانت «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، التي تأسست سنة 1940، لكنها بقيت أسيرة صياغات قانونية غائمة، لا تُخرجها من إطار التابعية المباشرة للحكومة ولرئاسة مجلس الوزراء، ولكن لا تُسقط عنها سلسلة صلاحيات واسعة، بينها مداهمة البيوت وتوقيف الناس في الشوارع، دون أمر قضائي. ومنذ تأسيسها ارتكبت الهيئة سلسلة انتهاكات فضائحية بحقّ المواطنين (أحدثها واقعة مطاردة «فتاة النخيل» في الشارع، وتعرية جسدها بدل ستره، والتي أطاحت بمسؤول الهيئة في الرياض)؛ وأخرى ترقى إلى مستوى جنائي (كما حين منعت الهيئة رجال الإطفاء من إنقاذ طالبات داخل مدرسة للبنات تعرّضت للحريق، بذريعة أنهن لم يكنّ محجبات، مما تسبب في وفاة 14 طالبة)؛ أو مستوى سوريالي مضحك/ مبك في آن معاً (اعتقال دمية كرتونية تمثل امرأة، أمام متجر في الرياض!).
ولم يكن غريباً، والحال هذه، أن تتداعى أصوات من داخل المملكة، لا تطرح الأسئلة حول وظائف هذه الهيئة وحدود صلاحياتها، فقط؛ بل تطالب بإلغائها نهائياً. الإعلامي قينان الغامدي اعتبر أنّ»هيئة الأمر بالمعروف بوضعها الراهن جهاز نشاز، ولا مناص من إلغائه نهائيًّا وفوراً»؛ وكان زميله عبد الله بن بخيت قد سبقه إلى الدعوة إياها، وقيل يومها إنّ رأيه هذا قد تسبب في إيقافه عن الكتابة في صحيفة «الجزيرة» السعودية؛ زميلهما محمد الرطبان اتخذ الموقف ذاته، داعياً إلى الإلغاء النهائي: لا نريد أن نرى شاباً يدعي أنه محتسب ليحدد لي في معرض الكتاب ما الذي يجب أن أقرأه»… لافت، مع ذلك، أنّ غالبية المطالبين بإلغاء الهيئة جنحوا إلى خيارات تنتهي إلى «تلطيف» المهامّ ذاتها، تقريباً، عن طريق الدعوة إلى إنشاء أجهزة أكثر تخصصاً، سيما الرقابة على المطبوعات!
والحال أنّ قرار مجلس الوزراء السعودي ـ الذي قضى مؤخراً بتقليص صلاحيات الهيئة، وحظر على رؤساء مراكزها أو منتسبيها «إيقاف الأشخاص أو التحفظ عليهم أو مطاردتهم أو طلب وثائقهم أو التثبت من هوياتهم أو متابعتهم»، لأنّ هذه الإجراءات «من اختصاص الشرطة والإدارة العامة لمكافحة المخدرات» ـ إنما يسير في المنحى التلطيفي، دون سواه. ذلك لأنّ أربعة عقود من التصارع بين ركائز الحكم التأسيسية في المملكة ـ السلطة القبلية، وسلطة الفتوى، والسلطة المركزية ـ كانت قد أقنعت ابن سعود باستحالة إغفال أيّ منها لصالح أخرى؛ فأوصى أبناءه بإدامة توازن دقيق بينها. ولكن تحوّل المملكة إلى منتج أساسي للنفط في عهد الملك سعود، خاصة بعد تجاوز سقف المليون برميل يومياً، أسند إلى العائدات النفطية وظيفة سوسيولوجية جديدة وخطيرة، هي تدمير بعض هياكل التوازن التي شيّدها الملك المؤسس؛ خصوصاً ذلك التشارك القلق بين القِيَم القبلية، وأصول الدين، ونظام الإدارة.
ورغم انزلاقه إلى مقدار فاضح من النفاق، فإنّ بوش لم يكن في حلّ من اقتباس الريحاني، لأنّ المملكة. يومها، كما اليوم أيضاً ـ لم تكن قادرة على تزويد سيد البيت الأبيض بمادّة نفاق ملموسة في الحدود الدنيا. والخبرة التي راكمتها الأسرة الحاكمة في تدبير الشأن القبلي لم تستطع تقديم إجابات مناسبة عن أسئلة وتحديات العمران والتحديث (التي أضعفت الأواصر القبلية بالضرورة)، وتوزيع عائدات النفط (التي ضاعفت إيقاع الولاءات الشخصية وعلاقات الاستزلام)، والظواهر السياسية الإقليمية والدولية في كلّ حقبة عاصفة تقريباً.
والعاصف الشديد الذي يكتنف المملكة، اليوم، ليس عاصماً أقلّ من مخاطر الخارج الإقليمي فقط، بل لعله أدعى إلى العصف بالداخل أيضاً، ومن قلب ركائزه العتيقة؛ هذه التي سادت، وشاخت، فما بادت!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى