الرأي

زوربا اليوناني يحلّق في سماء أخرى

عاشت اليونان ومعها أوربا شهرا أو ما يزيد مسلسلا دراميا، بين اليونان الجريحة والمثقلة بالديون وأوربا المتأزمة، بين اليونان المهانة والمجروحة في كرامتها الوطنية وعجرفة أوربا المتغطرسة والمتباهية بقوتها الاقتصادية.
بدا الأمر أشبه بفصل من مسرحية شكسبير الشهيرة «تاجر البندقية» حين سيشترط المرابي اليهودي «شيلوك» على التاجر البندقي «أنطونيو» في حال عدم سداد قرضه، أن يقتطع من أيّ مكان من جسده رطلا من لحمه. لقد كانت غاية المرابي «شيلوك» الانتقام من التاجر البندقي «أنطونيو» الذي يرفض التعامل بالربا الفاحش، ولم يقترض مبلغ الثلاثة آلاف جنيه إلا من أجل صديقه «بسيانو» الذي يعتزم الزواج وفي حاجة ملحة للمال، مطمئنا إلى قرب وصول سفنه المحمّلة بالبضائع إلى موانئ البندقية ومن ثمّة سداد قروضه.
هكذا تتواجه اليوم اليونان أمام أوربا في محاكمة شبيهة تقريبا بأنطونيو التاجر البندقي وشيلوك المرابي الذي يصرّ على استيفاء دينه قطعة من جسد غريمه رطلا من اللحم.
علاقة أوربا باليونان لم تكن سوية تماما منذ البداية، حيث سارعت إلى ضمّها إلى الاتحاد الأوربي ومنطقة «الأورو» في ما بعد، في بهرجة إعلامية كما لو كانت تستعيد إرثها وجذرها الثقافي والحضاري الذي طالما اعتبرته الصرح العتيد الذي انبنى عليها كيانها. ضمّت إليها سقراط بكأسه المسمومة وهو يذعن في حكمة عزّ نظيرها لقرار أوّل ديمقراطية عرفتها البشرية، أفلاطون بسبابته المرفوعة إلى السماء مثل جمهوريته الفاضلة، أرسطو المعلم الأول وأب المنطق، أرخميدس وصيحته عاريا: «أوريكا أوريكا / وجدتها وجدتها»، ولا ننسى فيتاغوروس وهندسته ولذة أبيقور وحكمة زينون الرواقي، وقبل ذلك بكثير الطبيعيين الأوائل الذين أطلقوا العنان للفكر الإنساني لخوض غمار مغامراته مع المعرفة، والأعمى هوميروس يشدو ملحمتيه «الأوديسا» و»الإلياذة»..
كلّ هذه النفائس المؤسسة للمعرفة الإنسانية ضمّتها أوربا بجرّة قلم إلى ممتلكاتها مثل ما يفعل محدث نعمة بأمجادٍ معوزين هو في حاجة إليها لبعض الوجاهة، مقابل وعود خلابة بمظلّة سياسية في حجم الاتحاد الأوربي، وجنّات عدن اقتصادية تكفلها واحدة من أهمّ العملات في العالم، لذلك استطاب اليونانيون الدخول إلى نعيم منطقة «الأورو». لم يكن نعيما بل جحيما مرّ عبر حلقات متسلسلة لينقشع أخيرا ضباب الوهم وتستفيق اليونان على واقعها المرّ. اليونان البلد الزراعي الذي يعتمد على مداخيل السياحة وعلى اقتصاد غير مهيكل جعلاه في فترة معينة صاحب أكبر أسطول تجاري بحري بعد ليبيريا وبانما، لمنحه علم البلاد للسفن التي لا تمتلك الشروط القانونية للإبحار، أو التي تريد الاستفادة من التسهيلات الجمركية الصارمة أو حتّى التملّص منها.
لقد كانت اليونان بلدا يجرّ من خلفه تركة ثقيلة من عهود الاحتلال العثماني، وحتّى في فترة استقلاله خضع لسنوات من الحكم العسكري لا يختلف في ذلك عن الكثير من بلدان جنوب البحر الأبيض المتوسط. لقد استفاق اليونانيون، في ظلّ الأزمة الاقتصادية الأخيرة، على حقيقة مفادها أنّ اليونان لا تواجه فقط خطر الإفلاس الاقتصادي، بل خطرا يهدّد هويتها وارتباطاتها بمحيطها المتوسطي والعالم ويربطها قسرا بالمركز الأوربي الذي تحدّد قراراته برلين وباريس.
إنّ عملية إدماج اليونان في الاتحاد الأوربي كانت (أوْربة قسرية
Européanisation forcée) لم تأخذ بعين الاعتبار الإكراهات التاريخية وذيولها المترتبة عنها، بما يمكن تسميته بالروح اليونانية المغامرة والمستلذة لأطايب الحياة حدّ الحسية المفرطة أحيانا واللاعقلانية أحيانا أخرى، بل إنّ أوربا وألمانيا تحديدا قد سارعت إلى إحلال نموذج اقتصادي نيو ليبيرالي متوحش كانت له آثار وخيمة على جميع المستويات. وأرغمت اليونان على تقديم بيانات اقتصادية غير حقيقية للدخول إلى منطقة الأورو والتوافق مع اتفاقية ماسترخت لتحظى بديون وتمويلات أوربية سخية كانت إيذانا بعهد من الإنفاق الشامل على الكثير من القطاعات ذات المردودية غير المضمونة وغير المراقبة كذلك.
في 2004 اكتشف الاتحاد الأوربي الخدعة اليونانية وتزايد ارتفاع الدين العام لبلد ضعيف الموارد، ودعا مثل أي مرابي محترف إلى تصحيح الوضعية عن طريق مزيد من الديون ذات الفوائد المرتفعة، مغرقا اليونان في مستنقع خطير تبدو فيه مسؤولية أوربا وصندوق النقد الدولي أخلاقية وسياسية واضحة، على حدّ تعبير رئيس وزراء اليونان الحالي ألكسيس تسيبراس: «إذا كنت مدينًا بخمسة آلاف أورو للبنك، فالدين مشكلتك. لكن إذا كنت مدينًا للبنك بخمسة مليارات أورو، عندها يصبح الدين مشكلة البنك».. لذلك من حقّها أن تنتفض في الاستفتاء الأخير من أجل كرامتها وروحها الأبدية ومن أجل مستقبل آخر.
اليونان اليوم، حسب أوربا، حجارة ميتة سائرة إلى الهاوية لكنّ أوربا للأسف لم تقرأ رائعة نيكوس كازانتاكيس وبطل روايته زوربا اليوناني، عندما قال: «إنّ الحجارة تصبح حية في المنحدرات».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى