الرئيسية

سر الحرب التي نصر فيها المغرب ليبيا ضد أمريكا

«ضربت أمريكا الحصار على ليبيا، وطلبت الأخيرة المعونة من المغرب. الاتفاقية التاريخية التي تجمع المغرب بأمريكا كانت تمنع نصرته لأعدائها، لكن الوازع الديني غلب المولى سليمان وأرسل سفينة لفك الحصار عن الليبيين. اكتشف الأمريكيون الأمر، وانتهت الحرب «المنسية» بطريقة لا تخطر على بال.. ».

هل كان المغرب مدركا للورطة التي كادت أن تعصف بالعلاقات مع أمريكا؟

راج كثيرا أن المغرب خاض حروبا فوق أرض جيرانه دفاعا عنهم، خصوصا في إطار سياسة الانغلاق على أوربا، أيام التوتر الشديد بين المغرب وأوربا وحتى أمريكا.. لم يكن سبب التوتر سياسيا بقدر ما كان دينيا بالأساس.
في عهد المولى سليمان وحده، خاض المغاربة حروبا ضد الأجانب، في إطار سياسة انغلاق دخل فيها المغرب، كلفته قطع علاقته بإسبانيا والبرتغال، وغابت السياسة تماما لتحل محلها المدافع والسيوف.
سيشهد المغرب في الفترة نفسها، حصارا غير مسبوق، تمثل في خوض حروب متقاربة على أكثر من جبهة مع أساطيل بحرية إسبانية وبرتغالية، كلفت خزينة الدولة مصاريف طائلة، لجأ معها المخزن إلى سياسة ضريبية جعلت الأجواء الداخلية تزداد توترا. لكن كتابات تاريخية، حكمت على فترة المولى سليمان، بأنها واحدة من أكثر الفترات ازدهارا من ناحية فرض الدولة لثقل وازن في المنطقة.
مشاركة المغرب في حرب خارجية، كانت إلى وقت ما قبل عهد المولى سليمان، تعتبر حماقة كبيرة، خصوصا وأن علاقات والده المولى محمد الثالث مع الغرب كانت متينة للغاية، لكن وفاته سنة 1790، جعلت الغرب يهب إلى ضمان بقاء العلاقات الدبلوماسية مع المغرب على حالها.. المشكلة كانت أن المولى سليمان، كانت له نظرة أخرى للأمور، أبان عنها خلال الأشهر الأولى لجلوسه على العرش، وفهم المغرب أن سنوات الود مع الغرب قد تعرف نهايتها قريبا. لم تكد سنة 1800 تلقي بظلالها، التي لم تكن وارفة، على المغرب وأوربا، حتى بدأت سياسة الابن، المولى سليمان بن محمد، تظهر بوضوح عداء غير عادي للغرب، وفي المقابل تبرز تعاونا كبيرا مع الدول المجاورة للمغرب، خصوصا الجزائر وليبيا. كان الغرب يرى في الأمر استفزازا له، وهو يرى كيف أن المغرب يبادر إلى تلبية طلب طرابلس، ويمد زعماءها بسفينة من القمح. حتى أن بعض المراسلات وقتها قللت من أهمية المساعدة في البداية، وعادت إلى التأكيد على أن أمورا ما لن تكون على ما يرام أمام سياسة الدولة المغربية الجديدة، والتي تختلف تماما عن السياسة التي كان يمارسها السلطان السابق، والمتمثلة في مراعاة التوازن في التعامل مع القوة الأوربية من الناحية التجارية والعسكرية أيضا.
المثير في قصة هذا الملف، أنها تقدم صورة من الأعلى عن أزمة كاد المغرب أن يغرق في دوامتها. إذ إن البلاد كانت في أزمة لا تسمح بخوض حرب برية ولا بحرية، خصوصا إذا كان الطرف الثاني في الحرب هو الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن المولى سليمان ألقى كل شيء جانبا، وبادر إلى مساعدة الليبيين الذين كانت تحاصرهم أمريكا في إطار حرب طرابلس، وهي حرب قلما تذكرها أرشيف أمريكا. وعندما صودرت السفينة المغربية، جرت أطوار دبلوماسية أخرى طوت صفحة الحرب بطريقة لا تقل غرابة عن تلك الحرب نفسها.
كيف مر المغرب عبر التاريخ من أزمات حروب مع أوربا، غيرت ملامح الدول التي تعاقبت على الحكم؟ وكيف وصل الحكم إلى المولى سليمان قرونا بعد ذلك، ليسجل موقفا مغربيا يمكن أن يكون الأغرب عبر التاريخ، في تعاطي المغرب مع الأزمات العسكرية؟
من جعل مواقف المغرب من أوربا وأمريكا تتغير؟
حتى قبل العلويين، كان حضور المغرب دبلوماسيا أمرا مفروغا منه، ليس فقط لاعتبارات اقتصادية، ولكن مراعاة للظروف السياسية أيضا. بالنسبة لهؤلاء، كان المغرب استثناء سياسيا حقيقيا عندما نجح في وقف المد العثماني منذ وقت مبكر، لتبقى الأراضي المغربية غير تابعة للحكم العثماني. وحتى قبل مجيء العثمانيين إلى الحكم في الشرق وتوسعهم في كل اتجاه، كان المغرب نافذا من الناحية التجارية، وكان لزاما بالتالي على أوربا أن تحافظ على أبواب التواصل مفتوحة لضمان وصول الإمدادات التي تحصل عليها من العمق الإفريقي، عبر المغرب.
هذا التميز السياسي والتجاري، الذي لعبت فيه الجغرافيا دورا كبيرا، جعل المغرب يحظى باهتمام كبير، لكنه جر عليه مطبات كثيرة، دفع خلالها المغرب ثمن الامتياز الذي حظي به.
في عهد ملوك وحكام كثيرين، لعبت الدبلوماسية أدوارا كبيرة في تعزيز المكانة السياسية للمغرب، وهكذا، بدل أن تجري الأمور بشكلها الإداري المعتاد، جرت بكثير من المودة والمجاملات، والتقرب الذي بلغ حد تبادل الهدايا وتقديم التنازلات وفك الخلافات التي تكون عالقة من فترات سابقة لمجيء الحاكم الذي يختار سياسة الانفتاح بدل الانغلاق السياسي الذي تتضرر من خلاله التجارة، وتقوم الثورة في الداخل قبل الخارج.
في مقابل هؤلاء، كانت هناك سياسة أكثر صرامة في التعامل مع كل ما هو أجنبي. السبب وراءها يعود، حسب العارفين بتقلبات موازين السلطة في المغرب عبر التاريخ، إلى مسألة أساسية تتعلق بالعلماء والفقهاء المقربين جدا من الحكام.
بعض الملوك، خصوصا في الدولة العلوية، كانوا يحيطون أنفسهم بجماعة كبيرة من رجال الدين، الذين كانوا متأثرين بتداعيات الحروب التي شنتها أوربا على المغرب في فترات سابقة، وأول ما يلقون به، كمشاورات للحاكم، ضرورة رد الصاع للأوربيين، أو مقاطعتهم على الأقل. النقاش الديني لا يقبل أي مفاوضات، أو تأويل، ولم يكن العلماء والفقهاء يحتاجون إلى ورقة ضغط للتأكيد على تفعيل رأيهم الديني الذي لم يكن يراعي للسياسة طريقا، بل كان كافيا أن يعلنوا ضرورة مقاطعة الأوربيين وغلق الأبواب أمامهم، حتى يصبح الأمر سياسة رسمية للدولة!
لا ينكر المهتمون أن الأمر جعل المغرب يكبر في مواقفه السياسية التي لا يجب أن تكون دائما متوازية مع رؤية الغرب لطريقة التعامل مع الدول الإسلامية. وهكذا كانت بعض المواقف المغربية تعتبر ثورية في ذلك الوقت، حتى ما قبل فترة محمد الثالث، الذي لم يكن في الحقيقة استثناء، بل سبقه ملوك آخرون إلى نهج السياسة نفسها التي ضغطت على أوربا في فترات كثيرة، وجعلت القوى العالمية وقتها تعيد النظر في حساباتها، وتقدم تنازلات رلى المغرب.
لكن الأمر لم ينجح في حالات أخرى، اضطر خلالها المغرب إلى إعادة النظر في أمور سياسية، بعد أن عادت عليه سياسة الانغلاق بأضرار اقتصادية، حكمتها ظروف وسياقات معينة.
لنعد الآن إلى حيث سنبدأ من جديد. من بين كل الحروب التي خاضها المغرب باسم مواجهة الأوربيين والغرب عموما، تبقى حربه ضد أمريكا، فوق الأراضي الليبية جديرة حقا بالتأمل. سنرى كيف أن سفينة القمح التي قلنا إن المغرب قدمها إلى الليبيين في أولى سنوات عهد المولى سليمان، لم تكن إلا بداية تعاون عسكري، سيتدخل فيه المغرب لينصر ليبيا ضد الولايات المتحدة الأمريكية!
هكذا مرت جميع الدول التي حكمت المغرب مئات السنين بحروب مع أوربا!
للتذكير بالمسار التاريخي الذي قاد إلى تغيير الخارطة السياسية بالمغرب، تجب العودة إلى مئات السنين التي خلت! لماذا العودة إلى كرونولوجيا قد تبدو مكرورة للبعض؟ السبب أنها تقدم جوابا واضحا عن الطريقة التي بدأ بها التسلل الأوربي نحو المغرب، وتعطي مسارا واضحا للطريقة التي تطورت بها أنظمة الحكم التي تعاقبت على حكم المغرب، لتخرج من حروبها الصغيرة وتواجه العالم الخارجي. وهكذا بدأ الأمر مع الأدارسة، هؤلاء سيسجل التاريخ أنهم أول من حكم المغرب من العائلات المسلمة القادمة من الشرق، أو «الشرفاء». وستكون نهاية دولة الأدارسة بسبب الصراعات بين العرب والأمازيغ، كما أشار إلى ذلك محمد شفيق في كتابه «النخبة المخزنية»، عندما قال إن الانقسام تغذى بالفوارق القبلية، أي أن أوربا لم تكن لها يد في التأثير على نظام الحكم. لنمر الآن إلى الذين جاؤوا بعد الأدارسة، المرابطون، هؤلاء أقاموا دولة ليسقطهم الموحدون. فإذا كان يوسف بن تاشفين قد أسس دولته على أنقاض مجد الأدارسة، فإن دولته أيضا كتب لها أن تنتهي، ليس بالتفرقة والانقسام، أو التأثيرات الخارجية، بل باسم الدين هذه المرة.
عندما كان المرابطون يحكمون بالتحالف مع القبائل، ضابطين إيقاع الزوايا التي تؤطر «العامة»، فإن رجلا كان يدعى المهدي بن تومرت جاء لتوه من المشرق، حاملا لأفكار دينية مغايرة عن تلك التي تسري في تلك الأرض.
بدأت حرب بن تومرت باسم الدين ضد المرابطين، لتستمر عشرات السنين. خلال هذه الفترة، قامت حروب طاحنة لم تنطفئ إلا سنة 1130 ميلادية، لتقوم على إثرها دولة الموحدين. بعد ذلك ستكون الدولة بدون رأس، وسيسعى الجميع إلى تثبيت قدمه في منطقة معينة. في تلك الأثناء، دخل إلى المغرب أناس يرعون الجمال، وتركوها في مناطق فكيك وملوية، ليحملوا السلاح في وجه دولة الموحدين المتفككة.
المرينيون خاضوا معارك ضد مماليك الموحدين، وأبرز معاركهم كانت ضد بني عبد الواد، ليحكموا بعدها طيلة مائتي سنة، ويصل مد دولتهم إلى حدود تونس. ليكونوا بذلك قد شكلوا دولة مغربية كبيرة ستؤسس لمبدأ التوسع الجغرافي في ما بعد.
المئتا سنة التي أمضوها في الحكم قبل أن يغادروه تاركين لغيرهم زعامة البلاد والتحكم في رقاب العباد أيضا، كانت تعرف حروبا داخلية متواصلة في ما بينهم. وهو ما عجل بنهايتهم أيضا.
أبو عنان المريني، والذي كان سلطانا للبلاد، تعرض للقتل في ظروف غامضة تاركا خلفه عشرة من الأبناء مطالبين بالعرش من بعده، ليخوضوا حروبا طاحنة في ما بينهم، محولين البلاد إلى مستنقع كبير للدماء. كل واحد من الأبناء المطالبين بالعرش أراد تقوية جانبه بالتجار الأغنياء وزعماء القبائل والفقهاء، وتحولت البلاد إلى استقطاب للناس للدخول في حروب متطاحنة راح ضحيتها الآلاف.
في الوقت الذي كانت الدولة تغلي في صراعات داخلية، فإن الواجهة البحرية كانت تعرف تدخلات من الإسبان والبرتغاليين الذين احتلوا الشواطئ. وهكذا بدأت أولى علاقات الحرب بين المغرب مع أوربا، والتي كما سترون، ستكون مديدة وواعدة بالحروب.
أمام الأطماع الأوربية، لم تكن هناك دولة قوية ومستقرة تدافع عن السواحل المغربية ضد الامتداد الأوربي. الوطاسيون وصلوا إلى الحكم بعد أن نجحوا في إزاحة المرينيين، لكنهم لم ينجحوا في إخضاع جميع المناطق التي كانت تعرف ثورات قبائلية ضدهم وضد دولتهم الفتي،. وهو ما جعل أوربا تتقوى أكثر.
لم يجد الوطاسيون سندا لدولتهم المهزوزة إلا في التنازل للأوربيين عن المزيد من الموانئ والشواطئ، في مقابل مساعدتهم على الاحتفاظ بالسلطة في مناطق محدودة، وهكذا سجل التاريخ على المغرب أول تواطؤ مع الأوربيين لضمان استمرار الدولة الحاكمة. وبدل أن تستقر الأمور، دامت الاضطرابات والقتال في جميع أنحاء المغرب أكثر من 80 سنة، أي ما يقارب قرنا من الزمن.. كانت خلالها الزوايا غاضبة على الوطاسيين، وبما أن الزوايا غير راضية، فإن «العامة» غير راضين أيضا، وهو ما جعل الأوضاع تبقى متضاربة طيلة ذلك الوقت.
بعد ذلك جاء السعديون. هؤلاء في رصيدهم واحدة من أشهر المعارك في تاريخ المغرب إلى اليوم، يتعلق الأمر بمعركة وادي المخازن التي نكلوا فيها بالبرتغاليين وهزموهم. لكن قبل المعركة كانت هناك سنوات عرفت صراعا بينهم وبين الوطاسيين إلى أن نجحوا في إسقاط دولتهم وإقامة الدولة السعدية.
لم يتأت للسعديين الحكم إلا بتحالفهم مع الزوايا الدينية، وهو التحالف الذي دام زهاء أربعين عاما إلى أن قضوا على آخر معاقل الوطاسيين.
في معركة وادي المخازن، حارب السعديون بضراوة، وسقط خلال الحرب 3 ملوك. قُتل الملك البرتغالي «دون سيباستيان» والمغربي المتوكل، وهو من الوطاسيين، وكان متحالفا مع البرتغاليين، والسلطان آنذاك عبد المالك.
لكن أبناء السعديين لم يضمنوا استمرار مجد الدولة التي نكلت بأوربا، ممثلة في إسبانيا والبرتغال، ونكلوا بأنفسهم، في حروب طاحنة في ما بينهم حول وراثة الحكم، استمرت لـ60 سنة كاملة.
التفكك الذي عرفته دولة السعديين جعل التوغل الأجنبي يزداد حدة ويسترجع سطوته، بعد أن نكل به السعديون في بداية دولتهم. وهكذا عادت لأوربا قوتها في مواجهة المغرب.
على أنقاض دولة السعديين وتوغل الأجانب، قامت دولة العلويين بعد أن توحد تحت رايتهم المناهضون للأجانب والتوغل الأوربي الذي كان يسيطر على الشواطئ والموانئ.
العلويون خاضوا القتال في عدة جهات من المغرب. تروي الكتب التاريخية أن أول سلطان في دولة العلويين كان مولاي امحمد بن مولاي علي الشريف، وخاض حروبا على جبهات كثيرة، ولم يسلم بدوره من المؤامرات الداخلية التي أرادت تنحيته على العرش وتنصيب أخ له مكانه. لكن هذه الأمور لم تؤثر على مسار الدولة في محاربة المد الأوربي، الذي جاء نتيجة سوء تدبير الدول التي حكمت المغرب لمئات السنين.
عندما وصل الحكم إلى المولى إسماعيل، لم تتوقف القلاقل عن ملاحقة عرش العلويين، إذ قام أحمد بن محرز، وهو ابن أخ السلطان مولاي إسماعيل، بتنصيب نفسه سلطانا على منطقة سوس. نشبت حرب ضارية بين السلطان وابن أخيه طيلة 14 عاما، ولم تنته إلا بموت أحمد بن محرز في منطقة الأطلس الصغير. بوفاة المولى إسماعيل، نشبت حرب أخرى بين أبنائه الخمسة، وكل واحد منهم يدعي أنه الأجدر بالعرش. وهكذا سقط المغرب في الحفرة نفسها، وتبدأ أوربا في شحذ سيوفها لاستهداف المغرب. بعد هذه الفترة بالذات، ستأتي على المغرب سنوات طويلة جدا، يتكرر خلالها السيناريو ذاته تقريبا: بدء علاقات مع الغرب، والعودة إلى قطعها من جديد! وبين مد وجزر، تكون حروب مغربية أوربية تراق خلالها الدماء.
رسالة إلى أمير ليبيا تكشف عداء المولى سليمان للأمريكيين!
عندما توجهت السفينة المغربية إلى طرابلس تلبية لطلب قبائل ليبيا، كان المولى سليمان يعلم أنه يخرق بنود الاتفاقية التي تجمع المغرب مع أمريكا قبل وصوله إلى الحكم. لم يكن من حل لتبرير خرق الاتفاق، إلا التزام المغرب ببند آخر يتعلق بضرورة مد يد العون لمن يطلبه، وإعطاء الأولوية للعامل الديني والانتماء، وهو ما سيجعل المغرب مضطرا إلى فتح باب المساعدة أمام ليبيا، حتى لو كانت في حرب مع أمريكا.
ما وقع هو أن قائد السفينة المغربية سيجد نفسه في ورطة كبيرة في شواطئ ليبيا، إذ وسط غمرة الحرب، سيجد نفسه في يد الأمريكيين، وسيكون عليه أن يتدبر الأمر ويخرج المغرب من ورطة دبلوماسية كبيرة، ويقول إنه اجتهد وقام بما أملته عليه عاطفته ويتحمل لوحده مسؤولية خرق الاتفاقية مع أمريكا، بدل أن تصبح التهمة موجهة نحو المغرب.
تقول المراجع التاريخية التي تناولت أمر هذه الحرب المنسية، إن الأزمة التي وضع فيها المغرب نفسه تتلخص في أن أمريكا كانت تحاصر ليبيا انتقاما من الضربات التي توجهها القبائل الليبية إلى السفن الأمريكية كلما مرت من نفوذها البحري. وأمام الحصار أصبح الليبيون في حاجة كبيرة إلى العون، وهكذا أرسل المغرب سفينة من القمح ستصادر وتتوتر الأمور بين المغرب وأمريكا.
حتى مع الموقف «الذكي» للمسؤول عن السفينة المغربية، الذي حاول جعل الأمر يبدو أنه خروج عن سيطرة المغرب، ومحاولة منه لتقديم يد العون إلى القبائل في طرابلس، فإن رسالة المولى سليمان المؤرخة في التاريخ نفسه، تكشف كيف أن المغرب كان يعتبر نفسه في حرب مع أمريكا بسبب حصارها لليبيا. إذ إن المراسلة بين المولى سليمان إلى أمير ليبيا، وكان اسمه يوسف باشا تقول: «.. لا نالوا جهدا في صلة نصركم، وإعزاز أمركم، واتساق سعدكم، وإسعاف قصدكم». أما بخصوص خرق الاتفاقية بين المغرب وأمريكا، فقد قال عنها المولى سليمان في الرسال ذاتها: «.. قصدنا بهذا أن يعلم اعتناؤنا بأمركم وعلمنا على نصركم، واهتمامنا بشأنكم، ليقصر شأو عدوانها (أي الولايات المتحدة الأمريكية) ويتضاءل طائر طغيانها..».
لا يفهم من كلام المولى سليمان إلا فلسفته التي كانت معادية تماما للغرب، حتى أنه اشتهر بأنه كان أكثر تشددا من العلماء والفقهاء، في تعامله مع الأجانب. وحتى بعد أن انفرجت الأزمة بين المغرب وأمريكا، بفضل الخطوة التي قام بها المسؤول عن السفينة، فإن رسالة المولى سليمان إلى الأمير الليبي، كشفت جزءا مهما من خلفيات النية التي قدم بها المولى سليمان المساعدة إلى الليبيين.
أمام هذه الحقيقة المثيرة التي تكشفها رسالة المولى سليمان إلى أمير ليبيا، يتضح جليا أن المغرب كان يغامر بإقحام نفسه في حرب طرابلس، أو الحرب المنسية. الكتب الأمريكية تسميها الحرب البربرية الأولى. هذا الاسم يعكس بطبيعة الحال النظرة الاستعمارية للولايات المتحدة الأمريكية، واعتبارها للقبائل في شاطئ طرابلس مجرد قراصنة يهددون خطوطها البحرية. الحرب الأمريكية في شواطئ طرابلس، كان الهدف منها، حسب المراجع التاريخية نفسها، تأديب القبائل التي تحاول فرض الضرائب على السفن الأمريكية، أو اعتراضها، وهو ما جعل أمريكا تقوم بإنزال عسكري بحري كثيف، وتحاصر تلك القبائل لبسط نفوذها على المنطقة وتسيطر عليها بحريا لتأمين الخطوط التجارية البحرية.
هذه الحرب سميت «منسية» لأن النهاية التي آلت إليها، جعلت الأمريكيين يسارعون إلى نسيانها، وتجاوزها إلى تذكر حروب أكثر ضراوة.
موقفان متناقضان : ورطة تكشفها رسائل المولى سليمان إلى أمريكا وليبيا!
في الوقت الذي كان فيه المولى سليمان متأكدا أن سياسته في التعامل مع الأوربيين هي أفضل ما يمكن القيام به، انتقاما للتنكيل الذي مس المغرب في حروب سابقة منذ عهد أبيه وجدّه، كان «توماس جيفرسون» متأكدا بدوره أن سياسته في التعامل مع شمال إفريقيا، لا يمكن إلا أن تعود بالنفع على اقتصاد بلاده. سنة 1802 لم تكن عادية، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تبحث عن ذريعة لشن حرب ما، كما تؤكد بعض المراجع الأجنبية، في شمال إفريقيا لتأمين خطوط نقلها البحري.
كان على المولى سليمان، كما ذكرنا، أن يقدم مساعدات غذائية إلى ليبيا بطلب من حكام قبائل طرابلس. والحقيقة أن سياسة الانغلاق التجاري مع الغرب، والتي كانت عنوان مرحلة المولى سليمان، جعلت المغرب يعرف ازدهارا مرحليا في المجال الفلاحي، لأنه لم يوجه الإنتاج نحو التصدير كما كان معمولا به في فترة من الفترات، وهكذا كان بمقدور المولى سليمان أن يساعد طرابلس دون مشاكل أو تفكير في استنفاد مخزون الحبوب.
لكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن علاقة المغرب بالولايات المتحدة تعود إلى الفترة التي أعلنت فيها أمريكا قيام دولتها، ليكون المغرب أول دولة في العالم تعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما نتج عنه، خلال فترات سابقة أيام انفتاح المغرب على الخارج، إبرام اتفاقية لها بعد عسكري، تتلخص في التزام المغرب بالوقوف عسكريا إلى جانب أمريكا.
المعضلة التي تواجه المغرب في فترة حكم المولى سليمان، تتلخص هنا بالضبط، وهو التزامه باتفاقيات سابقة أبرمها حكام سابقون، خلال سياقات تاريخية معينة، لم يجد المولى سليمان نفسه مضطرا إلى الالتزام بها ليرميها جانبا، ويقدم المساعدة إلى ليبيا التي كانت وقتها في مناوشات مع الولايات المتحدة الأمريكية بسبب «القراصنة».
أمريكا تطلق عليهم في كتبها التاريخية لقب «القراصنة»، لكن كتبنا تسمي أنشطتهم بالجهاد البحري. وبين القرصنة والجهاد، وجدت أمريكا نفسها مضطرة إلى تأمين مرور سفنها عبر المنطقة دون أن تصل إليها سيوف طرابلس، على اعتبار أن سفن أمريكا تمر بحرا من منطقة نفوذها.
هنا كانت أمريكا تسعى إلى استشعار أولى الأزمات لتجعل منها فتيلا لحرب تكسر بها شوكة قبائل طرابلس، وتنهي مخاطر التعرض لسفنها في عرض البحر المتوسط.
العلاقة الدينية والتاريخية التي تربط المغرب بليبيا، جعلت المولى سليمان ومستشاريه، يبادرون إلى مساعدة ليبيا، مدركين أنهم بذلك يخرقون اتفاقيتهم مع الولايات المتحدة الأمريكية. لم تمض سنوات كثيرة على استقلال أمريكا، لكنهم يعلمون جيدا أنها أصبحت قوة بحرية واقتصادية تنافس أوربا، بل وتتجاوزها بكثير، لكن المولى سليمان في ظل سياسته، لم يكن ليفضل فتح الباب أمام أمريكا ويخوض معها حربا ضد قبائل تشاركه الدين والانتماء.. وهكذا وضع المغرب نفسه على جبهة جاهزة للحرب مع أمريكا بعد أن أحكم إغلاق الأبواب أمام أوربا.
كيف انتهت أحداث الحرب المنسية؟
سيكون من الطريف الوقوف عند تداعيات الحرب الأمريكية المنسية. بدأت عنيفة وواعدة بمزيد من الأزمات وبسط النفوذ الأمريكي بحريا، وانتهت بسيطة كخلاف بين الأشقاء، والسبب تدخل المغرب للوقوف إلى جانب ليبيا عبر مدها بالمؤونة وسط الحصار الأمريكي.
الموقف الذي اتخذه المسؤول عن السفينة المغربية، والذي اعتبر شجاعا وقتها وبطلا قوميا، جعل المغرب يتجنب أزمة كبيرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ويذهب في اتجاه طي الأزمة برغبة أمريكية. وهكذا بدل أن تخوض أمريكا حربا مع المغرب، لأنه قدم مساعدات إلى أعدائها الليبيين، توجه قائد الأسطول الأمريكي إلى المغرب والتقى بالمولى سليمان، ليشرح له سياق احتجاز قواته للسفينة المغربية، وتطوى الصفحة بعد إرجاع السبب إلى سوء فهم بسيط بين الطرفين، ليؤكد الطرفان على أن الاتفاقية بين المغرب وأمريكا لا تزال سارية المفعول. وفي إطار التأكيد على استمرار العلاقات، شيد في طنجة مقر للبعثة الأمريكية، ليكون بذلك أول مؤسسة أو بناية تمثل الولايات المتحدة الأمريكية خارج حدودها.
لنعد الآن إلى رسالة المولى سليمان إلى الأمير الليبي، والتي تحمل وجهة نظر مغايرة تماما لما قدمه المغرب إلى الأمريكيين، حيث تكشف الرسالة أن المغرب كان مستعدا لجميع الاحتمالات حتى لو تعلق الأمر بهزيمة في عرض البحر، وفضل أن يقدم مساعدات إلى ليبيا في عز حربها التي ستصبح منسية، مع الولايات المتحدة الأمريكية.
حرص أمريكا على احتواء الوضع، وغضها الطرف عن تقديم المولى سليمان لمساعدات إلى دولة تحاصرها قواتها البحرية، يعكسان مدى حظوة الجانب المغربي، وقوة الولايات المتحدة الأمريكية أيضا.. حيث إن الوقائع تتعلق بحرب مفتوحة، لكن احتواء الأمور بتلك الطريقة الغريبة، يعكس رغبة في المضي بالأحداث إلى الأمام والقفز على خيار الحرب.
نهاية الحصار على طرابلس، سجلت للمغرب علاقات متينة مع ليبيا، ومع أمريكا أيضا، وهكذا آلت الحرب إلى مآل لا تؤول إليه الحروب في العادة. لكن المولى سليمان احتفظ لنفسه بتذكار عن تلك الحرب، حيث كتب للأمريكيين مؤكدا التزام المغرب ببنود الاتفاقية التي تجمع أجداده بأمريكا، وكتب لأمير ليبيا مؤكدا أنه لن يخذل أخا يقاسمه الانتماء العرقي والديني، حتى لو تعلق الأمر بكسر حصار تفرضه قوة عاتية كأمريكا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى