الرأي

سفراء فوق العادة إلى الجزائر

من موقعه كوزير دفاع سابق، أبرق السفير المغربي في الجزائر محمد عواد إلى العاصمة الرباط، ينبه إلى الفوضى والاضطرابات التي كانت تعيشها الجارة الشرقية. ولأنه كان يحظى بتقدير القصر، صارحه في تقرير خاص أنه يأمل لو أرجأ الملك الحسن الثاني زيارة كانت مقررة إلى الجزائر حينذاك.
لم يكن عواد عسكريا، لكن حدسه السياسي استبق الأحداث. ساعده مروره بوزارة الدفاع، التي كانت تفتح خزائن الأسلحة المغربية أمام الثورة الجزائرية، على تلمس إمكانية استخدام تلك المساعدات التي فاقت الشعور، في عمليات ارتدادية. فالرجل الذي رافق الملك الراحل محمد الخامس في زيارة إلى القاهرة، سمع منه كيف أنه اقترح على الرئيس المصري جمال عبد الناصر إفراغ الطائرة الملكية، كي تشحن بأسلحة موجهة لدعم الثورة الجزائرية.
بيد أن الحسن الثاني كشف أنه قرر زيارة الجزائر، باعتباره أول رئيس دولة تطأ قدماه بلاد المليون شهيد مباشرة بعد نيلها الاستقلال، على رغم نصائح مقربين إليه. والراجح أنه كان يشير بذلك إلى اقتراح السفير محمد عواد الذي كانت له مكانة خاصة لديه. وفي بقية التفاصيل أن الجيش الوطني الجزائري شن بعد تلك الزيارة هجمات عدوانية على منشآت ومدنيين مغاربة في منطقة لا تبعد كثيرا عن محاميد الغزلان، ما أدى إلى اندلاع المواجهات العسكرية التي سميت «حرب الرمال» خريف العام 1963.
من ذكريات المواجهة أن مطربا مغربيا تغنى بكلام صريح يقول في معرض انتقاد موقف الرئيس الجزائري أحمد بن بلة: «هجمت على أرض سيادك، بالسلاح التي تعطى لك». ومثل الرصاص القاتل في أزمنة الحروب اندفعت قذائف إعلامية وسياسية في كل اتجاه. وبقي من اقتراح السفير محمد عواد أنه قال ما كان يعجز آخرون عن الإفصاح عنه. فالدبلوماسية التي لا توقف الطيش قد تحد من مفعوله عبر توجيه المحاذير.
لا تقاس سنوات القطيعة في العلاقات بين الجزائر والمغرب إلا بالفترات القليلة التي عرفت فيها بعض الانفراج. وعلى امتداد أكثر من نصف قرن يمكن احتساب المراحل التي كانت فيها تلك العلاقات عادية أو أقل من المألوف بكونها أكبر في الحيز الزمني. لذلك لم يكن سفير مغربي آخر إلى الجزائر هو الدكتور عبد اللطيف الفيلالي أقل تشاؤما. فقد جرى تعيينه هناك لأنه كان يرتبط بعلاقات مودة مع زعماء الثورة الجزائرية، أملا في معاودة بناء جسور الثقة وتحسين العلاقات.
كيف لا وهو الدبلوماسي الذي انتدبه الملك الراحل محمد الخامس لمحاورة الفرنسيين في قضية الإفراج عن زعماء الثورة الجزائرية الذين اختطفوا على متن طائرة مغربية كانت متوجهة من الرباط إلى تونس للالتحاق بالعاهل المغربي. وقد كان واردا أن يقلوا الطائرة نفسها التي قادته إلى تونس.
غير أن السفير عبد اللطيف الفيلالي خبر الجزائريين أكثر، ليس كسفير لبلاده في العاصمة الجزائرية فحسب، بل من خلال توليه مناصب دبلوماسية مكنته من التعرف على النوايا الحقيقية للسلطات الجزائرية. وقد خرج بخلاصة مفادها أن الجزائر الرسمية أضاعت طريق الانفتاح على الجناح الغربي للعالمين العربي والإسلامي. فقد كان يصارح المسؤولين الجزائريين بأنه إن لم يكن من فوائد للبناء المغاربي سوى تنقية الأجواء بين الرباط والجزائر، فإن ذلك كاف ليكون الرهان مطمحا تاريخيا واستراتيجيا.
سئم الفيلالي من المناورات الجزائرية التي انضافت إليها أوضاع العالم العربي المأساوية، لينتهي به الاعتقاد إلى أن فكرة المغرب العربي والعالم العربي حتى، إن هي إلا مجرد وهم، في غياب الانضباط إلى أوفاق حسن الجوار ومنهجية التفاهمات التي تفرض نفسها على الجميع، باستثناء الحالة العربية العصية على الإدراك والتفهم. وظل الفيلالي أقرب إلى رصد تطورات الأوضاع في الجزائر، من موقعه كسفير ثم وزير ووزير أول.
دبلوماسي آخر سيعهد إليه بإطفاء الحرائق المشتعلة والبحث عن طريق ثالثة لبناء وفاق مغربي- جزائري. غير أن حظ المندوب السابق في الأمم المتحدة أحمد السنوسي لم يختلف عن مسار سابقيه. ومع أنه يمتاز بالمرونة وروح الفكاهة والدعابة في نقل الرسائل شديدة اللهجة، فإنه لم ينجح في إذابة ركام الجليد الذي استحال إلى جبال لم تنفع حرارة الشمس في تبخره. ومن النوادر التي علقت بالمنافذ التي يطل منها، أنه إذا ذهب إلى سفارة، فلا شك أنها ستقفل أبوابها، إذ يصعب على العمل الدبلوماسي أن يخفي الغبار المتصاعد الذي يراه الجميع، إلى درجة حجب الرؤية السليمة.
لا يجازف السنوسي بإغلاق الأبواب، لكنه أشد صراحة في الإعلان عن ضياع المفاتيح أمام الفضاءات الموصدة. ونقل عنه القول إنه حين يخفق في تطبيع العلاقات إيجابا مع أي دولة، فمعنى ذلك أن الأزمة أكبر من المساعي الحميدة التي يمكن أن يقدم عليها أي دبلوماسي متمرس. غير أن الرسالة التي حملها تعيين الدكتور عبد اللطيف بربيش أمين سر أكاديمية المملكة المغربية، كانت تروم إبلاغ فكرة بسيطة، تقضي بأن الأطباء الذين يشخصون الأمراض العويصة، يسهل عليهم أن يفعلوا ذلك في مجابهة الوعكات السياسية.
وأختم بالسفير عبد الله بلقزيز، فقد دعي إلى وزارة الخارجية الجزائرية أكثر مما دعي إلى حفلات الوئام، وكل المتمنيات للسفير الصديق عبد الخالق حسن بأن يجد آذانا صاغية لليد المغربية الممدودة بكل محبة وصفاء وصدق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى