شوف تشوف

الرأي

سياسة ورياضة بينهما فوارق البحر

على مكتب المفوض الأوروبي جاك دولور في بروكسيل، وضعت رسالة ذات أهمية استراتيجية بالغة، في وقتها وفي المستقبل. قرأها المسؤول الأوروبي متمعنا في سطورها، وتردد طويلا في الإجابة عنها. كان الموقف يحتم إجراء مشاورات على مستوى المفوضية وعواصم الدول الأوروبية المعنية.. إن لم يكن قصد الاطلاع واستخلاص الردود، فأقله لناحية اعتبار الأمر أكثر جدية.
قد تكون سياسة الاستعلاء، وإرجاء الحلول التي لا تبدو بدرجة الاستعجال والحسم، حتمت ترك الرسالة من دون جواب، على قاعدة «الرد ما تراه وليس ما تسمعه». وقد يكون تصنيفها ضمن أحلام السياسة عند اليقظة، قلل من فرص الحوار حول مضمونها. غير أن الأحلام في السياسة مثل الآمال التي تكون بعيدة، إلا أنها مقدمة الاستكشافات. ولولا أن عباس بن فرناس جال في خاطره أن الإنسان بدوره يمكن أن يحلق في الفضاء، لما جاء اختراع الطائرات التي اختزلت المسافات. ولولا أن كريستوفر كولمبوس وقف على ضفة الساحل الأطلسي، مقتنعا بأن هناك حياة على الضفة الأخرى للمحيط الهادر، لما كان اكتشاف القارة الأمريكية.
تقول الرسالة، التي أرجئ الرد عليها في حينه، إن المغرب يتوسم في نفسه وإمكانياته واختياراته وموقعه، أن يصبح شريكا في الاتحاد الأوروبي كامل العضوية، مثل أي بلد آخر في الفضاء الجديد للقارة العجوز. حلم كبير فعلا، ولا شيء يحظر على العقل البشري أن ينظر في اتجاه الأفق البعيد، سيما إذا كانت قوانين الجغرافيا لا تفصله عن أوروبا بأقل من 15 كيلومترا.
سألني السفير الإسباني في الرباط وقتها، وقد انتشر خبر طلب المغرب الانضمام إلى المجموعة الأوروبية، إن كان الأمر جيدا، ورجوت من المترجم الذي يجيد العربية أن ينقل إليه بالحرف الواحد: «إن كانت إسبانيا تصر على إدماج مدينتي سبتة ومليلية في الفضاء الأوروبي، على رغم أنهما محتلتان، فإن وجودها عند آخر نقطة من شمال القارة الإفريقية، يسمح للمغرب بطلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي».
لا أزعم أن حساسية الإسبان من هكذا حلم، كانت وراء إثارة الاستفهام. غير أن الوقائع تؤكد أن الرباط كانت أكثر حماسا لانضمام كل من مدريد ولشبونة إلى مجموعة السوق الأوروبية المشتركة، بعد مفاوضات عسيرة. والسبب في ذلك أنها لم تكن ترى في البلدين منافسين لها في حظوظ تدفق السلع والمنتوجات الزراعية إلى الأسواق الأوروبية، بل إن انفتاح أوروبا في حينه على كل من إسبانيا والبرتغال واليونان، كان من ضمن العوامل التي أدت إلى تحقيق طفرات نوعية في مسار البلدان الثلاثة.
كما هي أوضاع صخرة جبل طارق المتنازع على سيادتها بين إسبانيا وبريطانيا، إذ رأت الرباط أن استتباب واقع سيادة مدريد على المستعمرة البريطانية سيفتح المجال أمام تسوية ملف سبتة ومليلية، فإن انضمام إسبانيا والبرتغال إلى مجموعة السوق الأوروبية المشتركة، كان يعول على أن يصبح حافزا أمام إنصاف بلدان جنوب البحر المتوسط، خصوصا ذات العلاقة المتميزة مع أوروبا. ففي الوقت الذي كانت تسود طروحات حول «أوروبا الإمبريالية»، كانت الرباط أرست علاقات متينة برسم شراكة مستقبلية أوسع مع الشركاء الاقتصاديين والتجاريين والسياسيين المحتملين.
التقط المغرب الإشارة. تدفقت المساعدات ومظاهر الدعم، واستحالت شوارع المدن الإسبانية والبرتغالية واليونانية إلى أوراش تنبض بالبنيات التحتية والتجهيزات والمرافق التي شملت الطرق والمواصلات والمنشآت الاقتصادية والتجارية.. كان ذلك طبيعيا لتأمين هوامش الفضاء الأوروبي. وتذكر الناس أن أوروبا لم تنهض من كبوتها إلا بفضل خطة مارشال التي أقرت بعد الحرب الكونية الثانية.
هل كانت الرباط تشعر بأن في الإمكان اختزال فوارق البحر المتوسط التي أبعدت بين قارتين؟ في أي حال، فإن الدعم في فترات الحاجة إلى امتلاك مقومات النهوض لا يختلف عن أنماط التأهيل الذي يذيب الفوارق. غير أن الحلم في السياسة يجد مداه على مستويات أخرى. وليس من قبيل المصادفة أن طلب المغرب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، تزامن وتقديم ملف لاستضافته مونديال كرة القدم.
لنتذكر أن إسبانيا تغيرت إلى الأفضل بعد احتضان التظاهرة الرياضية العالمية، فقد أصبحت الرياضة صناعة تساعد في توفير إمكانات الانطلاق وفرص التشغيل وإقامة المزيد من المرافق والخدمات.. لكن العقل الذي بخل على المغرب بمجرد فتح نقاش واسع حول مسألة الانضمام إلى الفضاء الأوروبي من عدمه، هو ذاته الذي لازال ينظر إلى العالم بمثابة مساحات متناثرة بفوارق جمة في مستويات النمو والتنمية.
لا حاجة إذن لاستحضار أشواط سوء الفهم الذي ساد العلاقات الأوروبية – المغربية.. كل ذلك تفاصيل من منظومة استعلائية تفرض الإفراط في استخدام سياسة الاعتماد على النفس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى