الرأي

سينما العاهات

لأول مرة في فرنسا يحتل فيلم مغربي المرتبة الثانية في مداخيل شباك التذاكر، حيث إن «الزين اللي فيك» الذي يعرض في القاعات الفرنسية منذ 16 شتنبر الجاري هزم آخر الإنتاجات الفرنسية نفسها ولم يتفوق عليه سوى فيلم أمريكي يحكي سيرة مثيرة لحياة مغني «راب»، مما أهله لاحتلال المرتبة الأولى.
ومن النادر جدا أن يقبل الفرنسيون على مشاهدة فيلم غير مدبلج إلى لغتهم، لكن «الزين اللي فيك» كان الاستثناء لعدة أسباب أهمها توافق الإعلام الفرنسي على كلمة سواء وإجماعه المثير من إذاعات وتلفزات وصحف ومواقع إلكترونية من مختلف المشارب والتوجهات الأيديولوجية على الإشادة بفيلم نبيل عيوش وبـ «جرأة» بطلته لبنى أبيضار التي كانت بوجه خاص نجمة بلاطوهات أهم البرامج التلفزية واحتلت صورتها الصفحة الأولى ليومية «ليبراسيون» على سبيل المثال لا الحصر، ونشرت لها مجلات «البيبول» (النجوم والمشاهير) حوارات مسهبة اتقنت خلالها الممثلة المراكشية البرازيلية كافة أنواع المظلومية والتباكي على مصير شريحة معينة من النساء، بعد أن قررت أبيضار بدون تفويض أو توكيل من أحد أن تكون ناطقة رسمية باسمهن. لكن مصدر هذا الاهتمام الفرنسي الباهر بفيلم عيوش لا يعود لكونه تطرق لمأساة الدعارة، فهناك العديد من الأفلام الأوروبية والأمريكية التي تناولت الظاهرة على طريقتها، ولكنها لم تحظ بالإقبال الجماهيري والشغف الإعلامي إلا في ما ندر.
ما أثار الصحافة الفرنسية ومن ورائها جمهور السينما هو قرار المنع الذي اتخذته الحكومة المغربية، وهو أكبر هدية ما كان عيوش ليحلم بها، خصوصا وأنها فتحت أمامه أبواب المهرجانات الدولية، وجلبت له تعاطفا يعمي الأبصار عن هفوات الفيلم وقيمته الفنية والجمالية، ويفرض على الجميع أن يتعامل معه بأبوية ووصاية، ويرعاه بكل السبل والوسائل، إذ لا يمكن من المنظور الغربي الأوروبي سوى مساندة كل من تعرض للمنع في بلده أو صودر حقه في التعبير الحر، مهما كان مستوى هذا التعبير ومهما هزلت أدواته ومراميه.
وبغض النظر عن كل ذلك، فإن شروط النجاح في فرنسا وتحصيل التعاطف والإجماع وحصد الجوائز وأموال الدعم الحكومي والخاص، تتمثل في إقدام أي مخرج عربي أو مسلم على إنجاز عمل يبرز «عاهات» المجتمعات الإسلامية وطرح بدائل أخرى تبشر بنموذج «الحرية»، كما هو متعارف عليها في المجتمعات الأوروبية.
قبل «الزين اللي فيك» أغرقت فرنسا فيلم «تمبوكتو» للمخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو بالجوائز، حيث حصل دفعة واحدة على سبع جوائز «سيزار» بما فيها «سيزار» أحسن فيلم. لكن إذا ظهر السبب بطل العجب، فهذا الفيلم يندد بالتشدد «الإسلامي» وحماقات فئة محسوبة ظلما على الإسلام يتم تعميم سلوكها على باقي المسلمين.
ويمكن القول إن المجتمع الفرنسي المريض بأوبئة العنصرية ورفض الآخر والاستعلاء ومخلفات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، يمارس سياسة الجمل الذي لا يرى سنمه ويتطلع إلى سنم الآخرين. لذلك فإن فرنسا مغرمة بـ «سينما العاهات»، خصوصا إذا كان مصدر هذه العاهات ومنبعها المجتمعات الإسلامية، وذلك من أجل إقناع الجميع بأنه يستحيل إدماج المسلمين بمن فيهم الجالية المقيمة هناك، في المجتمع الفرنسي والمجتمعات الأوروبية ذات التركيبة «اليهودية- المسيحية»، ومن ثمة تبرير أي حيف أو تعسف يلحق بالمسلمين في مجتمعات ترفضهم جملة وتفصيلا. ومن أجل تعزيز هذا الطرح، فإن فرنسا تحتضن أي سينمائي أو كاتب يطعن في مقومات المجتمعات العربية والإسلامية وتغرقه في الجوائز والتكريمات وتفتح أمامه أبواب الاعلام المنحاز الخاضع للوبيات معروفة. لهذه الأسباب احتل فيلم «الزين اللي فيك» المرتبة الثانية في شباك التذاكر بفرنسا، وقد يحتل المرتبة الأولى في دول أوروبية أخرى، فمن خلال عرضه لقصة أربع داعرات، فإن عيوش أراد أن يحاكم مجتمعا بأكمله، هذا المجتمع الذي يوجه له تهمة العمى حيث صرح لإحدى القنوات التلفزية بأن المجتمع المغربي يرفض أن يرى وجهه في المرآة، بل إنه يفضل أن يكسر المرآة على أن يتطلع إلى وجهه البشع. لكن من أهل عيوش لمحاكمة المجتمع المغربي أمام مجتمعات الآخرين، وذلك بتحويل بلاطوهات التلفزة إلى محكمة مفتوحة، دون أن يحضر الرأي الآخر حتى لا يكتفي المشاهد الفرنسي بوجهة نظر أحادية البعد، وبأحكام نهائية غير قابلة للاستئناف. وما على عيوش اليوم إلا أن يتقدم بجزيل الشكر إلى الوزير الخلفي وجماعته على قرار المنع الذي طال شريطه، فلولا الحظر لما وجد «الزين اللي فيك» له موقع قدم لأن الإعلام الفرنسي لن ينتبه إليه في زحمة الأفلام الجديدة التي تعرض في القاعات الباريسية كل أسبوع. فهل سنقتنع بأن الرقابة المغربية وضعت نفسها في خدمة الدعاية المغرضة  ضد المغرب أم سنكتفي بشعار: «شوف وسكت»؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى