شوف تشوف

الرأي

صروح القدس الأعلى

ذات يوم كان أرييل شارون، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق ومهندس اجتياح لبنان ومجازر صبرا وشاتيلا، قد تفاخر بأنه منح فلسطينيي القدس الشرقية حقّ المشاركة في الانتخابات غير الإسرائيلية، من باب تقديس حرّية التعبير؛ ملمّحاً إلى أنّ هذا الإجراء، الذي صنّفه في باب «التنازل»، يرقى إلى مصافّ المسّ بمقدّسات إسرائيل حول مكانة أورشليم ـ القدس. واليوم تعتزم حكومة بنيامين نتنياهو استلهام تلك الروحية، الكاذبة والخبيثة في آن، حول حرّية العبادة؛ لكي تمنح اليهود حقّ الدخول إلى باحة الأقصى للصلاة، الأمر الذي يجيز للسلطات الإسرائيلية (وهي قوّة احتلال، في أوّل الأمر ونهايته) بإخلاء المكان من الفلسطينيين، حرصاً على سلامة المصلّين اليهود؛ وكذلك، وهو أدهى بالطبع، استصدار لوائح بأسماء فلسطينيين ممنوعين نهائياً من دخول الحرم الشريف والمسجد، بذريعة أنهم من الإسلاميين المتشددين.
يدرك نتنياهو، بادئ ذي بدء، أنّ السياقات كافة قد تكون ملائمة للشروع في هذه الخطوة الحاسمة، التي كانت حلماً إسرائيلياً ـ لكي لا يقول المرء: صهيونياً ـ على مرّ العقود. فعلى الصعيد الفلسطيني، ثمة سبات وفساد وترهل وشلل وارتباك وانقسام… يخيّم على مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية؛ تزيد من وطأته صراعات «فتح» و«حماس»، وانعكاساتها على الشارع الفلسطيني العريض. وعربياً، ثمّ إقليمياً أيضاً، ليس أفضل من هذا المشهد المعقد، في سوريا ولبنان والعراق واليمن وليبيا، فضلاً عن مصر والسعودية وشمال إفريقيا، الذي يضيف المزيد إلى حال العجز الفاضحة التي طبعت النظام العربي. وأمّا دولياً، فإنّ «الغنج» الإسرائيلي حول الاتفاق النووي الغربي ـ الأمريكي مع إيران؛ إنما يمنح نتنياهو هوامش ضغط إضافية، ليس بعضها أقلّ من أوراق ابتزاز معلن.
وكان الإسرائيلي ميرون بنفنستي، في كتابه «القدس: مدينة ممزّقة»، قد توقف عند التاريخ المعماري للمدينة، أو تاريخ بنائها على الأرض مثلما في المخيّلة والنصوص الدينية، منذ المعماري اليبوسي المجهول وحتى الأب الروسي الأرثوذكسي أنطونين، مروراً بسليمان وهيرود وهادريان وقسطنطين وعمر بن الخطاب. الأديان الثلاثة تبارت في إعلاء صروحها طيلة قرون، هذا صحيح بالطبع، ولكنّ بنفنستي لا يحتاج إلى مَنْ يذكّره بأن تاريخ المدينة الحديث والمعاصر يحتشد بمعادلات احتلال عسكري، وتمييز ديني وعنصري، وسياسات استيطان وتطهير إثني… هي الصروح الأعلى اليوم سواء على الأرض ومعيش الفلسطينيين اليومي، أو في باطن الرمز والروح والعقيدة.
جدير بالتذكير، هنا، أنّ هذا المؤرّخ الإسرائيلي (الليبرالي، كما يحبّ توصيف نفسه) كان نائب عمدة القدس الأسبق، تيدي كوليك، وكان بذلك على إطلاع تام ويومي بكل تفاصيل عمليات التهويد؛ وليس مبالغة الترجيح بأنّ تسعة أعشار اليهود يشاطرونه الرأي بصدد العلاقة مع مدينة القدس: الديني المتشدد مع العلماني المعتدل، واليميني المستنير مع اليساري الليبرالي؛ وجميع الذين شغلوا منصب عمدة القدس، من الليكودي إيهود أولمرت (بطل حرب 2006 على لبنان)، إلى سلفه كوليك (الليبرالي الحمائمي)، أسوة باللاحق أوري ليوبينسكي (المتطرف الذي دعا إلى هدم المسجد الأقصى!) والحالي نير بركات (الذي اقترح على الفلسطينيين أن تكون رام الله عاصمتهم، ثمّ تكرّم فوافق أن تُسمّى «القدس الشمالية»!.
وليس دون دلالة كبرى أنّ الحمائمي كوليك، وليس الصقوري نتنياهو، هو الذي تولى «تنظيف» الفضاء الجغرافي المحيط بالحائط الغربي، فهدم حيّاً عربياً بأكمله بين ليلة وضحاها، وأقام الساحة الحالية لكي تخدم أغراض العبادة والسياحة. وفي العودة إلى شارون، كانت نزهته الشهيرة في الحرم الشريف بمثابة الشرارة التي أشعلت انتفاضة الأقصى، التي حاول العالم بأسره، وأبناء العمومة أوّلاً، دفنها في المهد؛ دون جدوى، أغلب الظنّ، لأنّ النيران ما انفكت تتقد تحت رماد خادع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى