الرأي

ظاهرة القبانجي.. تجديد أم تمرد؟

أرسل لي الأخ (بلقاسم) من (الجلفة) في الجزائر خبرا عن رجل دين عراقي (أحمد القبانجي) توقعت أن يكون شيعيا. القبانجي جاءت من كلمة القبان (وزن الأشياء الثقيلة) ولكنه بنفس الوقت أقرب لجماعة الحداثة و(العلمانيين!)، ثم قرأت ما كتب وسمعت له عدة ساعات (باليوتيوب من محاضرات شتى) سمعت وقرأت له كي أنصفه فلا أظلمه.
أظنه (باعها) كما يقولون؛ فكفر بكل التراث وامتداداته. إنه يذكر بالقصيمي السعودي من بريدة كما حصل لاحقا مع العشرات، فكل وسط متطرف يولد مقابله فكرا أشد تطرفا وجموحا، كما في رسائل القصيمي المتفجرة (بينه وبين القلعجي). في أوربا تجمدت المسيحية في الرهبانية فكانت عاقبتها انفجار التعري (الاستربتيز) بدون أي حشمة وحياء، ليقود إلى البرودة الجنسية. فكل خلق هو بين حافتين كما يقول المناطقة، والأخلاق ترجع في النهاية إلى مثلث بثلاثة أضلاع هي العفة والشجاعة والكرم، وكل خلق بدوره هو بين حافتين من الحمود والشره، والتهور والجبن، والبخل والإسراف أو التبذير. فإذا أمكنت إقامة جسور متوسطية بين الأخلاق الثلاث وصلنا إلى وضعية العدل التي تقوم عليها كل توازنات الكون.
القبانجي والقصيمي كلاهما نشأ في وسط ديني متشدد (لنتذكر الراهب الألماني مارتن لوثر والكاهن جيوردانو برونو الإيطالي والفرنسي جان مسلييه راعي أبريشية شمباني)، وبالتالي سيكون الارتكاس أعنف والاصطدام مروعا كارثيا.
الرجل (القبانجي) يضحك من رواية الإسراء، ويقول عن القرآن أنه ليس كلام الله. يضحك على الشيعة قبل السنة في الحسينيات والحج إلى كربلاء واللطميات. ويصف كوميديا القبر وقصة منكر ونكير بأنها المهزلة بعينها، وعلى نفس النسق يمشي وينكر ويضحك من القرآن الكريم، ويقول إنه ليس ثمة معجزة فيه بل الكثير من الحشو (نموذج من سورة النور عن السماح بالأكل من بيوت أناس شتى مكررة على نحو لا يتوجب وليس له معنى فضلا عن أن يكون فيه رائحة إعجاز بلاغي). إنه يذكر أيضا برجل الدين السني المصري الدمنهوري الذي أنكر أي ميزة للقرآن وإن كان وقف طويلا أمام لفظة (ونادى) في سورة الأعراف فقال إنها عين البلاغة، وهكذا فالقرآن ـ بسحره ـ يمسك أشد الناس حربا له وكراهية.
يقول عن القرآن أنه مليء بالتناقضات، وينفي عنه أي صفة بلاغية، ثم يستحضر وبالتفصيل آيات قرآنية ويقوم بتفكيكها، ويقول إنها سخف في سخف، وإنها تضحك على عقولنا. وحين يتعرض لقصة زيد وزينب وأن الرسول ـ الذي لا يصلي عليه قط ـ استولى على زوجته، وأرسله ليقتل في معركة لا يرجع منها قط (وهو ما حصل في معركة مؤتة)، محاكيا ربما قصة داوود مع زوجة القائد العسكري (أوريا) حين رآها عارية فأعجبته؛ فأرسل زوجها إلى معركة لا يرجع منها قط، ويختلي هو بالحسناء. نحن نعرف علة زواج نبي الرحمة (ص) أنها غير ذلك، من أجل علة اجتماعية لا بد من معالجتها بحرمة الزواج من ابن التبني؛ فكسر القرآن القاعدتين دفعة واحدة أن ليس ثمة مكان للتبني. ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، وأن لا حرج من زواج من تزوج ابن التبني. نحن نعلم تماما رسوخ العادات وعدم إمكانية زحزحتها إلا بالتصرف العياني؛ فالكلام لا يفيد بقدر الممارسة الميدانية، بعدها تأتي كلمات التشريع.
وحول المسيح يقف مترددا نوعا ما، ولكنه يؤكد حدوث الصلب موافقا رواية الأنجيل، ما يخالف به صريح القرآن أنه ما صلبوه وما قتلوه، ويزعم أنه يجمع بين روايتي القرآن والإنجيل؛ فهو صلب ولم يصلب؟ كيف؟ قال صلب فأصابته إغماءة؛ فظن الجنود موته؛ فأنزلوه عن الصليب، وأودعوه القبر؛ ليصحو بعد ساعات؛ فيخرج متسترا بجنح الظلام؛ فيجتمع بتلامذته في لقاء أخير، مؤكدا لتوما مكان طعنة الرحم في جسده، ثم ليختفي من مسرح الأحداث، ربما توجه إلى الهند، حيث نبتت فرق الروحانيات طرائق شتى.
وبذلك يزعم أنه أنقذ النص القرآني وما ورد في الإنجيل! والقصة هي أبسط من هذا بكثير؛ فنجاة المسيح من المصلبة هي من أجل تخليص الفكر المسيحي من عقدة التثليث وألوهية المسيح وتعميد الصبيان، كما فعل لاحقا العديد من المصلحين، ومات من أجل ذلك مفكرون وفلاسفة، كما في محرقة الطبيب سرفيتوس ومحرقة جيوردانو برونو في مطلع القرن السابع عشر؛ فكيف يصبح الصبي نصرانيا لأنهم رشوا رأسه بماء الكنيسة، وكيف يمكن للمسيح أن يكون رب السموات والأراضين السبع ورب العرش العظيم، فيترك للبشر أن يصلبوه، كل ذلك من أجل كوكب (فسفوس) اسمه الأرض، والكون لا نهاية لمجراته ولا حدود لكواكبه؟
الرجل معمم ومجلبب وبعمامة سوداء (أي أنه من نسل فاطمة يجري في عروقه دم نبوي خالص غير هجين كما في العمائم البيضاء)، مما حرك عليه غضب علماء الشيعة، وصب التهم على رأسه، بل إلقاء القبض عليه وحبسه في إيران من ملالي ولاية الفقيه، وتوجه له تهمة (إنكار معلوم من الدين بالضرورة) وهي تهمة تقوده إلى حبل المشنقة. إلا أنه حسب قوله أن صفقة (النووي) مع الغرب أنقذت عنقه من المصلبة، وهي من كانت خلف خروجه من محبسه. ولكن هل هي فعلا خلف محبسه وحريته أم أن هناك صفقة خفية لا نعلم عنها شيئا. القرآن يعلمنا قاعدة من سورة يوسف (ما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين).
إنه يهاجم المؤسسة الدينية بدون رحمة أو هوادة، ويحاول تفسير تعدد زيجات النبي أن شعورا عميقا كان يدفع النبي (ص) كان خلفه بحث النبي عبثا عن (وريث) له من بعده، وهو كما نرى نوع من التعبير اللاشعوري عن نظرية الحكم عند الشيعة حين كرسوه في نسل فاطمة، وهي نظرية تذكرنا بنظرية العرق الآري وآرومة الدم واستدارة الجمجمة.
نحن نعلم أن رسول الرحمة (ص) رزق بالقاسم وإبراهيم، ولكن لم يبق أحد ويعيش، وفي فراق إبراهيم من مارية دمعت عيون نبي الرحمة (ص) وهو يقول وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون!
كان خلف ذلك حكمة إلهية بإبطال أي نوع من الحكم يتم عن طريق الدم بل الكفاءة، بسبب تاريخي قاهر، حيث ارتاح الناس عند عتبة الملوك القاهرين.
الكفاءة كما حصل في الحكم الراشدي، الذي لم يستوعبه جيل البعثة، ولم يحافظوا عليه، بل اقتتلوا في مقتلة عظيمة راح فيها معظم جيل الصحابة فيما عرف بمعركة صفين.
ويتعرض الرجل إلى خلفية الحقد الفارسي على عمر (ر) بسبب تدميره الامبراطوية الفارسية و(كسر خشومهم على حد تعبيره)؛ فهو شيء لن يسمحوا به أو يسامحوه ـ على حد قوله ـ مهما امتد الزمن، (وهو ما نراه في تزويد البراميلي في سوريا بآلة القتل لأحفاد يزيد بزعمهم).
الفرس أولاد حضارة يجيدون حياكة السجادات والمؤامرات؛ فهم من كان خلف اغتيال عمر (ر) وما زالوا يحجون لقبر أبي لؤلؤة الفارسي. هم من دمر الدولة الأموية على يد المجرم (أبو مسلم الخراساني) الذي كان يطلق شعار اقتلوا من رابكم أمره ولو كان طفلا بطول خمسة أشبار، حتى انتهى بنفس الطريقة قتلا.
علينا أن لا نستخف بهم، ولسوف نكون شهود احتلال الشرق الوسط وجزءا من الجزيرة العربية في مدى عشرين سنة القادمة.
هم من تحدى الإسكندر فملكوا 24 دولة في إمبراطوية لا تغيب عنها الشمس، ولم يكن أمام الإسكندر بعد أن قهرهم عسكريا إلا الالتحام بهم، ثم جاءت سريعا نهاية ملكه على يد من جاء بعده، خلاف الفرس مع بعثة الإسلام، التي تحولت فيها فارس إلى الحنيفية، ولكن بلون فارسي لا يسر الناظرين، فكان زواج الحسين من بنت كسرى مبررا ممتازا، أن يبني الفرس من جديد حضارتهم بطريقتهم، متلفعين بعباءة خضراء حسينية وهي كسروية، أي أن الإسلام تفرسن، كما حصل مع روما حين اعتنقت النصرانية؛ فترومت النصرانية.
إنه بمفهومه عن (السحق) العمري لحضارة فارس، ونقل ثروتها ممزقة أيضا، مع بنات الملوك إلى بدو صحراء العرب، عند قوم ليسوا بأهل حضارة.
هو بهذا المفهوم (أيضا يفسر لماذا داعش تحطم الثور المجنح بفعل كراهية أعرابي لبقايا حضارة متفوقة). بهذا أيضا يهاجم الحوزة الدينية في طهران؛ فيصبح أقرب إلى جماعة الحداثة واللادينيين عموما؛ وإن كان الرجل يزعم أنه يقوم بالإصلاح الديني الداخلي مثل مارتن لوثر، بفارق أن مارتن لوثر لم ينكر الإنجيل؛ بل عمم نشره حين ترجمه إلى الألمانية؛ فأصبح في متناول كل واحد خارج دنيا الأحاجي وعالم الأسرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى