شوف تشوف

ملف التاريخ

عصابات التنقيب عن البترول المغربي

شركات سرية وأخرى في لوائح سوداء للتنقيب يعود تاريخها إلى 1930

«شركة كانت تملك فيها فرنسا أسهما، في مقابل أسهم أخرى للدولة المغربية، وأطلق عليها اسم «الشركة الشريفة للتسليح». كان مكتبها الرئيسي في فرنسا، لكنها كانت تتوفر على فرع صغير في الدار البيضاء، بشارع «زواف». الشركة تأسست في فرنسا سنة 1929، لكن فرعها في المغرب فُتح لاحقا ليتغير اسمها. كان رأسمالها يتجاوز 25 مليون فرنك فرنسي، وهو رقم مالي كبير بمعايير ثلاثينات القرن الماضي، خصوصا أن تلك الفترة كانت تعرف انهيارا كبيرا للاقتصاد الأمريكي. من جديد كان اسم الوزير المقري حاضرا داخل الشركة، لكن دون أن تتوضح الأسهم التي يملكها أو طبيعة انتمائه للشركة. ولم يكن المقري وحده مذكورا في الشركة، وإنما الاسم العائلي للحجوي أيضا، وهو صديق للمقري، وأحد كبار الأسماء التي أسست مجلس انتقال السلطة بعد نفي الملك محمد الخامس سنة 1953.
المثير أن اسم المقري، الصدر الأعظم المغربي والوزير المقرب من القصر، أثير مرة أخرى بشكل سري في شركة فرنسية اسمها FAMAQ وكانت متخصصة في مجال المعادن، وكان لها طموح وقتها في اقتحام عالم التنقيب عن البترول في المغرب»!

هكذا ولد «الذهب الأسود» المغربي..
لن نتطرق إلى عمق الأمور التقنية المرتبطة بالتنقيب عن البترول أو طرق استغلاله من طرف الشركات الكبرى حول العالم، بقدر ما يهمنا أن نعرف القصة الكاملة لأولى عمليات التنقيب التي عرفها المغرب وكواليسها.
سنة 2009، أي قبل عشر سنوات، عرف المغرب نقاشا حول إمكانية التنقيب عن البترول بشكل موسع من طرف شركات عالمية متخصصة في كل من طرفاية و«تمحضيت». لكن المثير أن عمليات التنقيب الأولى بدأت سنوات طويلة قبل هذا التاريخ.
فرنسا كانت سباقة إلى التنقيب عن البترول، وأشياء أخرى كثيرة، مستغلة الوضع الاعتباري للسلطة الفرنسية في المغرب والهيمنة العسكرية على الأقاليم التي اشتبهت فرنسا في إمكانية توفرها على احتياطي من البترول.
بدأ الأمر في عز الحرب العالمية الثانية. التفسير الوحيد لهذا الترابط يكمن في أن فرنسا كانت تعيش على إيقاع أزمة كبيرة للطاقة في ظل الحرب، وهكذا قرر المتخصصون أن يبدؤوا في استثمار المعلومات التي تم جمعها عن المغرب قبل الحماية. أي إن الاستكشافات والرحلات العلمية التي قام بها متخصصون فرنسيون إلى المغرب قبل الحماية بمدة وأيضا خلال بدايتها، لم يتم استثمارها فعليا إلا في بداية ثلاثينات القرن الماضي.
كانت المهمة غاية في الصعوبة. من جهة، كانت الصعوبات الطبيعية كبيرة نظرا لغياب التقنية المتطورة اللازمة لاستكشاف البترول. ومن جهة أخرى كانت صعوبات أخرى تتمثل في أعين المنافسة التي كانت تتبع عمليات التنقيب. إذ إن الحفر لأعماق الأرض في محاولات للوصول إلى فرشة من البترول الخام، كانت تفشل في مرات كثيرة. ولعل أول نجاح في اكتشاف البترول في المغرب كان في منطقة طنجة، خلال ثلاثينات القرن الماضي، ولو أنه كان بكمية ضئيلة جدا، لم تشجع أحدا على الاستثمار مستقبلا في تلك المنطقة.
حتى أن التفاصيل القليلة التي وردت في أرشيف الشركات الكولونيالية في المغرب قبل 1951، لم تشر بالضبط إلى مكان التنقيب ولا عن تفاصيل الشركات التي شاركت فيه. وهذا دليل إضافي على التكتم الكبير الذي كانت تُدار به الأمور في هذا الإطار.
سيعرف البحث عن البترول ثورة كبيرة في الستينات، أي بعد نهاية الحماية الفرنسية. سيخرج من جبة العسكري ليدخل الأمر باب المنافسة الدولية. إذ إن الملك الراحل محمد الخامس سنة 1960، أي أشهرا قبل وفاته، كان قد التقى بوفد من ممثلي بعض الشركات، التي كانت بدأت وقتها في التنقيب عن البترول في منطقة الشرق الأوسط، وكانوا وقتها يقدمون أنفسهم كرواد للتنقيب عن النفط بفضل العقود التي أبرموها مع الإمارات.
وهؤلاء الذين كانوا يحفرون الأرض يوميا للوصول إلى أعماق الصحراء العربية، كانوا يفكرون في الاستثمار في شمال إفريقيا أيضا، لتجنب المنافسة الكبيرة التي كانت في الشرق. وهكذا تم الشروع في عمليات استكشافية، تمت خلالها العودة إلى نقاط بعينها، سبق للفرنسيين أن بحثوا فيها عن البترول. لكن بدل أن ينفجر شلال من الذهب الأسود، وجدوا معادن أخرى، وكيفوا أوراق شركاتهم ليعملوا على استخراج المعادن في انتظار أن يظهر النفط المغربي. وهو الهدف الذي لاحقه الكثيرون، وانسحبوا في صمت.

شركة مشبوهة للتنقيب كان اسمها «دكالة»..
«دكالة» أو «الغرب». هذا هو الاسم الذي سُجلت به شركة فرنسية برأسمال قدره 4 ملايين فرنك فرنسي سنة 1946. كانت هذه الشركة فرعا للشركة الأم الفرنسية، التي كانت فرعا مغربيا لهولدينغ كبير في فرنسا برأسمال قدره 75 مليون فرنك فرنسي. كانت هذه الشركة تنشط في تصبير المواد الغذائية واستيراد المواد الأولية من المغرب، بما فيها الحديد المستعمل في التعليب.
وفي منطقة دكالة كانت الشركة تتوفر على فرع صغير، يديره مواطن فرنسي مقيم في الدار البيضاء، ويتنقل إلى دكالة للإشراف على المخزن التابع للشركة.
لم يكن هذا السيناريو إلا تكرارا لسياسة مارستها شركات فرنسية أخرى في المغرب، كانت تبادر إلى استخراج المواد الأولية بنفسها، بدل الحصول عليها من وسيط فرنسي بالضرورة، قد يرفع ثمن الحصول عليها. وهكذا اتجهت الشركات إلى الاستثمار في التنقيب بدل إنفاق آلاف الفرنكات سنويا للحصول على المواد المستعملة في التصنيع.
هذا التنقيب كان يفضي في بعض الأحيان إلى استكشافات غير محسوبة، مثل ما وقع في منطقة ميدلت خلال العشرينات، حيث تحولت إلى سلسلة من المناجم الفرنسية والتي نُهبت بواسطتها خيرات مهمة من المعادن المغربية، بعد أن كان إنشاؤها في الأصل بهدف البحث عن الغاز، على غرار عملية الاستغلال التي تقوم بها فرنسا في الجزائر.
مصدر هذه المعلومات هو أرشيف الشركات الكولونيالية في المغرب مع بداية الخمسينات، بالضبط سنة 1951، والتي تؤرخ لأزيد من نصف قرن من وجود الشركات الفرنسية في البلاد، قبل ذلك التاريخ.
هذا الأرشيف يتحدث عن المنهجية الفرنسية للتنقيب في المناطق المغربية، ليس فقط عن البترول الذي كان هو الهدف الأكبر لعدد من الشركات التي تتوفر على الإمكانيات المناسبة، وإنما على معادن وثروات طبيعية، كانت هذه الشركات تنفق أموالا طائلة سنويا للحصول عليها بطرق ملتوية، ففضلت أن تفتح فروعها بالمغرب، خصوصا في المناطق الساحلية، وعلى وجه الخصوص «بور ليوطي» (القنيطرة حاليا)، والتي أسست فيها فرنسا ميناء لتصدير ما يتم الحصول عليه من باطن الأرض ومن المناجم المغربية، لتصدر بنفسها ما تنتج عنه عمليات التنقيب.
أما بخصوص البترول، فقد كانت قصته تختلف نوعا ما عن التنقيب عن المعادن، ليس فقط لصعوبة الاستثمار في الحفر، وإنما لأسباب سياسية، خصوصا عندما دخل الأمريكيون على الخط، أواسط أربعينات القرن الماضي.

الفرنسيون حاولوا «شم» البترول بطنجة قبل 90 سنة
لا يوجد سبب واضح لتبرير تغييب الوقائع المتعلقة بقصة المحاولات الأولى لاستكشاف إمكانية وجود البترول في المغرب، والتي بدأت في مدينة طنجة خلال ثلاثينات القرن الماضي.
كان هناك تكتم كبير عن بداية الحفريات التي كان يقف وراءها رجال أعمال فرنسيون نافذون، متخفون في ظل شركة بترولية فرنسية للتنقيب عن البترول في بعض المستعمرات الفرنسية داخل القارة الافريقية. كان السياق السياسي خلال الثلاثينات يتيح لفرنسا جميع إمكانيات التنقيب السري عن البترول في المغرب. وحسب بعض المعلومات غير المؤكدة، فإن حفريات انطلقت في الفترة نفسها، أي خلال الثلاثينات أيضا، بكل من تونس وبعض الدول الإفريقية، بالإضافة إلى منطقة قريبة من طنجة التي كانت وقتها لا تزال منطقة دولية.
هذا التنقيب الفرنسي لم يكن ليخفى على دول أوربية أخرى كانت تضع قنصلياتها في قلب مدينة طنجة وتتابع الأوضاع المتقلبة داخل المغرب من المنطقة الدولية التي كانت تقنيا وسياسيا، غير خاضعة للإقامة العامة الفرنسية.
كالعادة، كانت لندن على رأس قائمة «المنزعجين» من المحاولات الفرنسية للتنقيب عن البترول على حدود مدينة طنجة، فقد سرت بعض الإشاعات في أوساط الدبلوماسيين، أشار إليها أرشيف القنصلية الأمريكية والهولندية أيضا في مدينة طنجة، خلال بداية القرن الماضي. هذه الإشاعات كانت تروج لنجاح الفرنسيين فعلا في الوصول إلى البترول على بُعد كيلومترات قليلة فقط من مدينة طنجة، لكن لم تتوفر أية معطيات عن طريقة نقله إلى فرنسا أو إنشاء نقاط لتكريره في المغرب.
بعكس الطريقة التي تم بها التنقيب عن البترول في منطقة «تمحضيت»، وأيضا طرفاية خلال بداية الستينات. كان هذا الأمر غائبا تماما عن الصورة، وجرت وقائعه في الكواليس، لأن الشركات الفرنسية التي كانت تسيطر على الطاقة في القارة الافريقية كانت تعمل باتفاق مع الجهات الرسمية الفرنسية ورموز الإدارة والمؤسسة العسكرية الفرنسية داخل المغرب، والتي كانت تنشط في إطار بنود معاهدة الحماية التي تم توقيعها مع المغرب سنة 1912.
بالنسبة إلى منطقة تمحضيت، فقد كانت عمليات الحفر الفرنسية للتنقيب عن البترول تتم في واضحة النهار، وقد تم استغلال فلاحين مغاربة بسطاء في الأعمال الشاقة للحفر، في حين كان المهندسون الفرنسيون يشرفون على الأشغال التقنية للتنقيب عن البترول.
المثير أن الأرشيف الرسمي لهذه العلميات يعترف فقط بالأشغال التي تم من خلالها فعلا الوصول إلى بعض المنابع، رغم أن جل هذه التقارير تجنبت الخوض في الكمية الحقيقية التي تم الوصول إليها أو تقديرها على الأقل.
في حين تم طمس أرشيف العمليات الفاشلة التي لم يتم من خلالها الوصول إلى أي شيء. هناك بعض عمليات الحفر والأشغال التي استمرت أشهرا طويلة، ووفر لها الجيش الفرنسي خلال الأربعينات والخمسينات الحماية الضرورية لكي تشتغل هذه الشركات الفرنسية بشكل آمن في أي منطقة تريد، وكانت بعض عمليات الحفر تستغرق أشهرا تمتد إلى سنوات، ليتم بعدها تغيير الموقع.
بدأ الفرنسيون يصابون بخيبة أمل، خصوصا خلال نهاية الثلاثينات، ولولا الكميات الكبيرة للمعادن التي وصلت إليها شركات المناجم واستخراج الذهب والفضة ومعادن أخرى، لربما كانت خيبة الأمل بالنسبة إليهم أكبر. لأن عمليات استكشاف البترول في المغرب خلال فترة الثلاثينات والأربعينات كانت مخيبة فعلا لآمال الفرنسيين، الذين مشطوا جل المناطق التي اشتبه المتخصصون في أن تكون فرشاة لاحتياطي مهم من البترول.
مع اقتراب سنة 1956، وحتى قبلها بقليل، كان المغرب على موعد آخر مع مقاربة مختلفة تماما في التنقيب عن البترول، والذي لم يعد حكرا على الشركات الفرنسية.

ابن وزير مغربي من مؤسسي شركة للمعادن سنة 1948!
إلى حدود سنة 2014، لم نكن في المغرب نتوفر على أي لوائح دقيقة باسم الشركات الفرنسية التي كانت تنشط في المغرب، خصوصا في المجالات التي كانت تحيطها الإقامة العامة الفرنسية بالسرية. كان المغاربة بالكاد يعرفون معلومات عن الشركات الفرنسية الكبرى التي كانت تنشط في مجال الاستهلاك، بالإضافة إلى الشركات الأخرى التي فتحت أبوابها أمام الأثرياء المغاربة للاستثمار، خصوصا في مجال تجارة الخشب والمواد الغذائية، وحتى توزيع المحروقات.
لكن الشركات التي كانت تطمح إلى استغلال الموارد الطبيعية والطاقية للبلاد، فقد كانت محاطة بالسرية، وبالكاد كانت المعلومات المتعلقة بها تظهر لكبار المسؤولين الفرنسيين في مغرب فترة 1912-1956. بل وحتى إلى حدود ستينات القرن الماضي، عند استحضار بقاء بعض المستثمرين والأطر الفرنسيين الذين كانت ارتباطاتهم المالية بالمغرب أكبر من أن تُطوى مع حصول المغرب على الاستقلال.
عامل مهم ساهم في اختفاء هذا الأرشيف، وهو أن المؤسسات التي كانت تراقب أو توثق لهذا النوع من الأنشطة لم يتسلم المغرب أرشيفها بعد الاستقلال، إذ إن الأمر لم يكن يتعلق بأنشطة عادية، وإنما بمجهودات سنوات من التنقيب عن البترول والطاقة في المغرب، ولم يكن هذا الأرشيف متاحا حتى للمهتمين الفرنسيين بالموضوع.
في سنة 2014، وبعد دراسات فرنسية للموضوع، تم الإفراج عن أرشيف مهم يتعلق بأسماء الشركات الفرنسية التي تأسست، سواء في فرنسا أو في المغرب، والتي كان يملكها ويديرها مستثمرون فرنسيون، برعاية من الحكومة الفرنسية التي كانت تشجع هؤلاء على الاستثمار في المغرب والتنقيب عن الطاقة وفق بنود سرية.
إحدى هذه الشركات اسمها «المصنع المغربي للمتلاشيات» أو «الخردة». وكانت هذه الشركة التي تأسست خلال سنة 1948، وكانت إدارتها بالدار البيضاء، بدأت برأسمال قدره 50 مليون فرنك، وكان بها عدد من الشركاء، لكن مالك أكبر عدد من الأسهم بها كان اسمه «بيير ماس» الذي كان مرتبطا بدوره بعالم النشر والمطابع، وربما كان طموحه ليلج عالم التنقيب عن المعادن قد بدأ بشركة المتلاشيات هاته، والتي لم تكن في الحقيقة سوى غطاء لأنشطة التنقيب عن المعادن. إذ إن الإقامة العامة الفرنسية في المغرب، كانت تلاحظ أن عمليات الحفر خصوصا في المناطق النائية بحثا عن إمكانية إنشاء مناجم لاستخراج المعادن، كانت تتم بشكل سري وعشوائي في بعض الأحيان.
بالعودة إلى هذه الشركة والتي كانت تعرف اختصارا بـFAMAQ، فإنه من المثير وجود اسم «المهدي المقري»، الذي ينحدر من عائلة الحاج المقري الذي كان رئيسا للوزراء، ومن كبار رجال الدولة المغاربة أيام الحماية، بحيث اشتغل إلى جانب الملك الراحل محمد الخامس منذ جلوسه على العرش إلى منفاه، حيث أصبح الحاج المقري بعد 1955 على رأس لائحة الخونة الذين هندسوا لتنصيب ابن عرفة مكان الملك الراحل محمد الخامس.
الشركة نفسها كانت لها أنشطة في العقار داخل الدار البيضاء والرباط، لكنها كانت تحاول فقط من خلال هذه الخطوة إيجاد بقع أرضية لتحويلها إلى مخازن لأطنان المعادن التي تضع الشركة عليها يدها.
ربما كان التحايل على الضرائب التي كانت تُؤدى للإقامة العامة الفرنسية، هو السبب وراء «تحوير» نشاط هذه الشركة. إذ إن المغرب لم يكن بلدا صناعيا لكي تنشط شركة برأسمال فرنسي في مجال تدوير المتلاشيات، في حين أن التنقيب عن المعادن والبترول، كان هو الهاجس الأول للجميع.

اللائحة السرية لشركات منسية أجرت آلاف عمليات الحفر بالمغرب
ملايين الفرنكات كانت تتحرك في كل اتجاه داخل المغرب، استفاد منها فرنسيون من خلال عمليات التنقيب عن المعادن وأيضا عن البترول. وبعضها، بدا واضحا أنها كانت تشتغل تحت غطاء تتستر به عن أنشطتها الحقيقية التي كانت تتمثل في التنقيب لنهب الثروات لاحقا.
شركة «الإخوة نوردون»، تأسست سنة 1947 برأسمال لم يتعد مليون فرنك فرنسي في ذلك الوقت. لكنها نشطت في أكثر من مدينة مغربية، وحصلت على تراخيص رسمية للتنقيب عن جميع أصناف المعادن في أي منطقة مغربية تختارها الشركة.
ربما كانت تكلفة هذا الترخيص المهم مرتفعة وقتها. إلا أن الواضح أن هذه الشركة لم تكن لتتأخر في استغلال نفوذها إلى آخر رمق، والدليل أن عمليات مجهولة، توثق لها اللائحة التي أفرج عن أرشيفها سنة 2014، والتي تؤرخ لـ«الشركات الكولونيالية» في المغرب، إلى حدود سنة 1951. أي إن آخر شركة تم توثيق أنشطتها ورؤوس أموالها كانت تعود لتلك السنة، بينما أقدم شركة كانت تعود لثلاثينات القرن الماضي.
شركة كانت تملك فيها فرنسا أسهما، في مقابل أسهم أخرى للدولة المغربية، وأطلق عليها اسم «الشركة الشريفة للتسليح». كان مكتبها الرئيسي في فرنسا، لكنها كانت تتوفر على فرع صغير في الدار البيضاء، بشارع «زواف». الشركة تأسست في فرنسا سنة 1929، لكن فرعها في المغرب فُتح لاحقا ليتغير اسمها. كان رأسمالها يتجاوز 25 مليون فرنك فرنسي، وهو رقم مالي كبير بمعايير ثلاثينات القرن الماضي، خصوصا أن تلك الفترة كانت تعرف انهيارا كبيرا للاقتصاد الأمريكي. من جديد كان اسم الوزير المقري حاضرا داخل الشركة، لكن دون أن تتوضح الأسهم التي يملكها أو طبيعة انتمائه للشركة. ولم يكن المقري وحده مذكورا في الشركة، وإنما الاسم العائلي للحجوي أيضا، وهو صديق للمقري، وأحد كبار الأسماء التي أسست مجلس انتقال السلطة بعد نفي الملك محمد الخامس سنة 1953. ورغم وجود هذين الاسمين في الشركة، إلا أن التدبير كان مفوضا للفرنسيين، حيث كان «بيير غيتن» رفقة بعض الأسماء الأخرى في مجلس الإدارة، يقررون في الشركة.
لم تتوضح معطيات أخرى عن الأنشطة التجارية لهذه الشركة، لكن مجال اشتغالها كان واضحا، رغم أن المغرب لم يكن يتوفر وقتها على قوات عسكرية حتى تمتلك الدولة أسهما في شركة تسليح يسيرها فرنسيون.
المثير أيضا أن بعض الشركات كان مقرها يوجد في «بور ليوطي»، وهو الاسم الذي كانت تحمله مدينة القنيطرة قبل أن تُعرف باسمها الحالي. فقد كان الفرنسيون يطلقون عليها اسم «بور ليوطي» بحكم تأسيس الميناء على مشارفها. بالإضافة إلى مدينة مهدية، التي كانت هي الأخرى مقرا لعدد من الشركات، منذ ثلاثينات القرن الماضي.
كانت إحدى الشركات تحمل اسما مثيرا للاستغراب والحيرة في الوقت نفسه: «الفخاخ المغربية». وبالتدقيق في المعلومات التي تتوفر عن الشركة، نجد أنها متخصصة في صناعة بعض الأغراض التي تستعمل لحماية المحاصيل الفلاحية، ويدخل الحديد في صناعتها بشكل كبير.
الشركة تنشط في جمع الحديد ثم استعماله في صناعة الأدوات الفلاحية التي تصدرها نحو فرنسا. وهنا بالضبط تكمن القصة! إذ إن شركة برأسمال قدره 60 مليون فرنك فرنسي، وهو مبلغ ضخم جدا بمعايير الأربعينات، كان أكبر من أن يخصص للاستثمار في صناعة أدوات وتصديرها نحو فرنسا.
التنقيب عن مادة الحديد كان أهم من تصنيع الأدوات، التي تبدو في الواجهة نشاطا أساسيا للشركة. إذ إن شركة فرعية لها كان مقرها في مدينة مهدية، تأسست برأسمال قدره 20 مليون فرنك، تحمل اسم «مروحيات بور ليوطي»، كانت تنشط في مجال الطاقة، وجاءت مدرجة تحت اسم الشركة الكبرى للفخاخ. لقد كان فخا كبيرا بالفعل.

عندما رغب الأمريكيون في تحويل القنيطرة إلى «خليج» آخر..
نحن في سنة 1943. بمجرد ما تم الإنزال العسكري الأمريكي بنجاح في كل من الدار البيضاء ونواحي القنيطرة، حتى بدأ الأمريكيون في تحويل «بور ليوطي» إلى مدينة أمريكية سرقوها من قبضة الفرنسيين بسلاسة.
كانت «بور ليوطي» كما رأينا مقرا لشركات فرنسية كبيرة تنشط في المعادن، والأكيد، من خلال مينائها تم تصدير ثروات مهمة تتنوع بين البترول والمعادن. شركة يتيمة فقط كانت متخصصة في صناعة الورق برأسمال متواضع جدا، بينما الشركات الأخرى استثمرت في التنقيب عن المعادن، والبترول والذي كان يُدرج باسم «الطاقة» لتفسير نشاط الشركات المتخصصة التي كانت رؤوس أموالها بملايين الفرنكات الفرنسية.
مع الأمريكيين اختلف الوضع، فقد حاولوا جعل «القنيطرة» عاصمة حقيقية للأمريكيين في قلب بلد كانت فرنسا تسيره سياسيا وعسكريا أيضا.
لم تكن فرنسا في موقع يسمح لها بصد الأمريكيين، لأنهم جاؤوا أساسا لإنقاذها من ورطة الهزيمة في الحرب العالمية الثانية، لذلك كانوا يتحركون بحرية في أكثر النقاط الحدودية حساسية بالنسبة إلى الفرنسيين.
وثقت مجلة «لايف» الأمريكية الشهيرة لبعض عمليات تنقيب شركات أمريكية خلال الأربعينات، في نواحي القنيطرة. هذه الشركات توغلت في اتجاه الغرب، وصولا إلى مكناس، حيث كانت القاعدة الجوية الأمريكية، وظلت تقوم بعمليات تنقيب عن البترول في المغرب.
كانت هذه الشركات كلها تتحرك بفرضية ما تم التوصل إليه من طرف الفرنسيين، الذين بدؤوا التنقيب قبل وصول الأمريكيين بسنوات طويلة. هؤلاء بطبيعة الحال كانت لديهم تجربة مختلفة تماما عن المنهجية الفرنسية في التنقيب، وأسلوبهم الخاص أيضا في مباشرة الأعمال.
تجنب الأمريكيون الخوض في مستنقع المناجم، الذي وقعت فيه فرنسا من خلال الدخول في قمع عسكري كبير للمناطق التي باشرت فيها عمليات التنقيب. مع الأمريكيين كان الوضع مختلفا تماما، وتمت العمليات في جو أريحي لم يكن للسلاح أي دخل فيه.
المثير أن الأمريكيين كانوا يعرفون معطيات مهمة عن الاستثمار في هذا الميدان بالمغرب. فقد كانت شركة فرنسية يسيرها «ميشيل كوت» الذي توفي سنة 1959، مستفيدا من دعم والده الذي كان من مؤسسي بنك فرنسي. هذا البنك فتح المجال أمام الأمريكيين سنة 1912، أي في وقت مبكر جدا، لدخول هذه العمليات من خلال شراكة بين بنك «كريدي ليوني» الفرنسي وبنك أمريكي، وأسسا معا مؤسسة بنكية برأسمال مشترك كانت تنشط في التعاملات مع هذه الشركات، وكان يسيرها، أي المؤسسة البنكية، السيد «فاليمي كامبي».
لا تتوفر معلومات إضافية عن أية أنشطة مورست في المغرب من طرف شركة لها علاقة بهذا البنك، لكن المؤكد أن عمليات تنقيب تمت بمنطقة سيدي بوعثمان نواحي مراكش، كانت شركتان حاضرتان فيها بقوة، واستفادتا معا من قروض قدمها الجانب الفرنسي للبنك المشترك.
الأمريكيون كانوا يتوفرون على معلومات بشأن التنقيب عن البترول، والملاحظ أن عملية التنقيب التي تمت في «تمحضيت» وفي الجنوب المغربي في الأقاليم الصحراوية، خلال نهاية الخمسينات وبداية الستينات، كانت أكثر احترافية من العمليات السابقة التي قادتها الشركات الفرنسية، التي لم تكن أغلبها تملك الجرأة للكشف عن الأنشطة الحقيقية التي كانوا يقومون بها في المغرب، خصوصا خلال أربعينات القرن الماضي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى