شوف تشوف

ملف التاريخ

عندما هدد وزير مغربي بطرد السفراء من المغرب

مراسلات من أرشيف الخارجية الفرنسية لـ1909 تنشر لأول مرة

«يتعلق الأمر هنا بوزير الخارجية المغربي الكباص، الذي ينحدر من عائلة الكباص العريقة في خدمة القصر. كان فقيها يكن احتراما كبيرا لخريجي جامعة القرويين، وفي الوقت نفسه يخاف على نفسه حتى لا يلقى نفس المصير الغامض الذي لقيه وزير الخارجية قبله، والذي كان صديقا له. لقد كان الموت اللغز لوزير خارجية المغرب السابق، مصدر خوف دائم لوزير الخارجية سنة 1909.
كان الانفتاح على فرنسا يجر على المخزنيين غضب العلماء والفقهاء في القرويين. لذلك كان محرجا لكل الذين عملوا في السلك الدبلوماسي المغربي، بصيغته المخزنية العتيقة، أن يجهروا بعلاقاتهم، لذلك فضل أغلبهم أن يقطعها من الأصل.. اتقاء لشر فرنسا..
هنا نورد أبرز وأغرب المراسلات التي بعث بها وزير الخارجية الفرنسي في يناير من السنة نفسها، أي قبل 110 سنوات من اليوم، إلى ممثل الخارجية الفرنسية في منطقة طنجة، بحكم أنه كان مستحيلا بعث موظف من الخارجية إلى فاس، على بعد أمتار فقط من القصر الملكي، ببساطة لأن مصيره سوف يكون هو القتل. لذلك لا عجب أن يشير وزير الخارجية المغربي، في لحظة غضب ربما، إلى أنه سيطرد كل السفراء والقناصلة والدبلوماسيين من المغرب.. لأن الوضع كان لا يحتمل».

صفحات منسية من تاريخ الدبلوماسية المغربية
لم تكن التقارير كلها وردية ولا ودية. مر المغرب من زمن القطيعة والجفاء، والتهديد والوعيد. في الحرب كما في السلم، كانت المراسلات الأجنبية التي تفد إلى القصر الملكي أو تخرج منه إلى السفارات الأجنبية ووزارات الخارجية في الدول الأوربية، تحمل رسائل كثيرة، تضمر أحيانا أكثر مما تظهر.
مضى زمن كان فيه الوزراء فقهاء، والأغرب، الخارجية أيضا كانت تعج بهم في زمن كان فيه الدبلوماسيون الأجانب يسعون إلى ربط علاقات متينة مع إداريين مغاربة لم يكونوا أصلا يؤمنون ببروتوكول الإدارة. في مقابل جيل من المغاربة الذين كانوا قد انفتحوا قبل 1909 بقليل، على الحياة الأوربية وصاروا يحظون باحترام الدبلوماسيين والقناصلة، بل ويقاسمونهم نفس الأفكار، لكن الدولة بقيت متوجسة من هؤلاء ولم تعتمد عليهم في الإدارة المغربية إلا بعد سنوات طويلة على تلك الفترة.
كان وزير الخارجية الفرنسي، كما سنرى في هذا الملف، متوجسا جدا من المغاربة. إلى درجة أنه كان لا يتورع في مراسلة ممثله في طنجة، والذي كان موظفا دبلوماسيا فرنسيا رفيع المستوى، ليخبره بتبليغ بعض الرسائل إلى القصر الملكي. لكن ممثل الخارجية الفرنسية في طنجة كان يجد صعوبات كثيرة في التواصل مع فاس. وتوجد في أرشيف الخارجية الفرنسية مراسلات مباشرة من وزير الخارجية الفرنسية إلى السلطان مباشرة، تعود إلى سنة 1909 بالضبط، رد عليها السلطان بلغة عتيقة وحذرة أضمر فيها أكثر مما أوضح. في غياب تام لدور وزير الخارجية المغربي. تطرق باحثون مغاربة وأجانب إلى أرشيف مراسلات القصر الملكي في فترات مختلفة، منها ما يعود إلى فترة المولى إسماعيل ورسائله الشهيرة مع لويس الرابع عشر، أو مع مملكة بريطانيا. لكن أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية لسنة 1909 ظل من أسرار الدولة، خصوصا وأنه يكرس للمنطق الاستعماري الفرنسي، ويكشف «الخديعة» التي تعرضت لها دول أوربية على يد دول صديقة تتقاسم معها نفس الحيز الجغرافي والمصالح أيضا. وهنا تكمن أهمية وثائق وزارة الخارجية الفرنسية. ففي الوقت الذي كان فيه السيد الوزير يربط علاقات وطيدة مع وزراء خارجية دول أخرى، كانت وزارة الخارجية المغربية، باسمها العتيق «الشؤون البرانية» مدرسة عتيقة صعبة على الاختراق. حتى أن تلميحات وزير الخارجية الفرنسي لم تجد من يتفهمها في الجانب المغربي. كان المولى عبد الحفيظ يرد على رسائل فرنسا، بعد مشاورات مع حاشيته الخاصة التي دعمته أصلا لكي يقطع علاقات المغرب مع الفرنسيين.
كان موقف وزير الخارجية الفرنسي محرجا للغاية، وبدا الأمر واضحا من خلال مراسلاته مع المفوض الفرنسي في طنجة.
كان هذا الأخير لا يقوى على مغادرة الشمال، خوفا على حياته أولا. ففي سنة 1909 تعرض فرنسيون كثر للموت على يد القبائل الغاضبة على امتداد الطريق من أقصى الشمال وصولا إلى العاصمة، ثم إلى الدار البيضاء أيضا.
قتل طبيب فرنسي رفقة زوجته في السنة ذاتها، ولم يملك المندوب الفرنسي إلا كتابة رسالة عزاء يخبر فيها وزارة الخارجية بحيثيات الموضوع. والقصة بدأت عندما تجمعت جحافل من المغاربة أمام القصر الملكي، في انتظار خروج السلطان لأداء صلاة الجمعة. حضر بعض الأجانب لمتابعة تلك الطقوس، وكان طبيب فرنسي وصل حديثا إلى فاس ولم تكن له أية دراية بالخصوصية المغربية، فاعتبره المتجمهرون استفزازا لهم، ليتعرض لاعتداء أودى بحياته هو وزوجته. والمثير أن الخارجية الفرنسية لم تهتم كثيرا بالموضوع. بدا واضحا أن لديها ما هو أهم من حياة مواطن فرنسي وزوجته. كانت فرنسا بوضوح تركز على الفوز بالمغرب، واختطاف الريادة من الإنجليز. لكن المهمة فشلت، على الأقل سنة 1909، لوجود وزير خارجية مغربي كان «جامدا» في علاقته بالفرنسيين.

هكذا انقرض «الفقها» من دواليب الدولة..
كانت سنوات خمسينات وحتى ستينات القرن الماضي، تحفظ لرجال الدولة القدماء هيبتهم. وهكذا كان آخر ظهور لأصحاب الجلاليب والتفكير المخزني القديم مع الملك الحسن الثاني، الذي كان يكن احتراما كبيرا للدولة العتيقة وأساليب دار المخزن.
تاريخ بأكمله يتوارى خلف جلاليب رجال بأسماء عائلية قديمة وعريقة في خدمة القصر الملكي، يعكسون المدرسة القديمة للدولة. صورة قديمة تجمع بعضهم مع الملك الراحل الحسن الثاني، وقبله مع الملك الراحل محمد الخامس. وهي العادة التي ورثاها معا عن ملوك الدولة العلوية، الذين كانوا يقربون منهم الفقهاء والعلماء، في وقت كانت فيه الدولة تحتاج أطرا حقيقيين تدربوا على أساليب الإدارة، التي كان الفرنسيون يتقنون «بروتوكولاتها» أكثر من غيرهم.
في هذا الملف سوف نتناول أرشيفا يكشف لأول مرة عن العلاقات المغربية مع وزارة الخارجية الفرنسية سنة 1909. مفاجآت كثيرة تتعلق بدواليب الإدارة، وكيف كان وصول المولى عبد الحفيظ إلى الحكم في تلك السنة مربكا للحكومات الأجنبية، التي كانت تتسابق للفوز بمصالح سياسية واقتصادية في المغرب.
وبما أن الفرنسيين كانوا يعانون من هيمنة البريطانيين على المغرب، لا بأس أن نعرج على ما أوردته الصحافة البريطانية، خصوصا «التايمز» التي كانت متخصصة في الشأن المغربي في تلك الفترة بالذات، بهذا الخصوص: عندما كنت أحدث المولى عبد الحفيظ، كان أول ما سألني عنه: «أين الفرنسيين؟» لقد كان خائفا من أن يكونوا خلفه. أخبرته أنهم يوجدون في الدار البيضاء، ليسأل مجددا: «لماذا لا يساعدني الإنجليز؟ لقد كانوا على صلة جيدة بالمغرب، لدي رسالة من ملكتكم فيكتوريا، وكانت علاقة بلدينا جيدة خلال فترة حكم أبي وجدي أيضا. يمكنني أن أريهم تلك الرسائل. لماذا لا يرسلون سفيرا إلي؟ أتمنى ذلك فعلا. آه.. لقد عقدوا حلفا مع الفرنسيين وباعوهم المغرب».
اكتشفت لاحقا أن ما كان يحكيه لي السلطان عن معرفته بالسياسة وما يقع خارج بلاده، كان يستقيه من الصحف التي كانت تصدر بمصر. لقد كانت تلك الصحف تكن العداء للأوربيين، وكانت هي المنشورات الأجنبية الوحيدة التي تأتي إلى المغرب. كان تهدف إلى نشر أفكار معادية للفكر الأوربي. معظم المغاربة الميسورين، إن كانوا يستطيعون القراءة، كانوا يشتركون في تلك الجرائد، ويصدقون كل حرف يكتب فيها، لأن كتابها كانوا مسلمين أيضا.
الأوربيون القلائل المحيطون بمولاي حفيظ، كانوا يقولون له تلك الملاحظات المتعلقة بما يكتب في الصحف المصرية. لكن الفكرة لم تكن جيدة على كل حال، بالنظر إلى الفكر المتعصب المتعلق بتلك الأمور.
واصل مولاي حفيظ كلامه: «في كل مكان من أوربا، كانت الجرائد تنعتني بالمتعصب والأصولي الذي يخوض حربا مقدسة ضد الأوربيين ويريد زعزعة عروشهم حتى يظهر لأتباعه أنه ضدهم. كل هذه الأمور كذب! كذب! بإمكانك أن تتجول وسأوفر لك الحراسة، صور ما تشاء وارسم ما تشاء وخذ تلك الصور إليهم ليعلموا أنني لست كما يقولون. أنا أقول الحق».
لقد صدمني كلام مولاي حفيظ، ولم أدر بم أرد عليه.
أحسست أنه لم يكن من المرغوب أبدا أن أتحدث في السياسة الخارجية في العلاقة مع أوربا. الحديث عن فرنسا كان شرارة تؤجج الجلسات مثل رصاصة طائشة. وبديبلوماسية حذرة حاولت أن أغير الموضوع».
هذا الكلام مقتطف من حوار وبورتريه نشرته «التايمز» لمراسلها هاريس في المغرب في سنة 1909 دائما.
لقد كان المغرب وقتها يتوفر على وزارة خارجية عبارة عن غرفة في بناية تابعة للقصر الملكي، وكان الوزير لا ينزع جلبابه، في وقت كان فيه الفرنسيون لا يتوقفون عن إرسال الرسائل والمبعوثين إلى المغرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى