الرأي

عندما يكون رب عملك الدولة

ناصر جابي

مقالات ذات صلة

قررت الكتابة هذا الأسبوع في الشأن الاجتماعي والنقابي تحديدا، هروبا من الجو السياسي الطاغي المرتبط بالانتخابات الرئاسية في الجزائر. شأن نقابي تميز باعتراف الحكومة بكونفدرالية نقابية لأرباب العمل الجزائريين، الذين أرادوا إضفاء الصبغة «النقابية» المطلبية على تنظيمهم المهني، الذي كان أقرب لمنطق المنتدى الاجتماعي عندما تم تكوينه سنة 2000. وهو ما قبلت به الحكومة ورحبت به لهذا التنظيم القوي الذي يضم 4000 رب عمل، يشغّلون حوالي نصف مليون أجير تقريبا داخل 7000 مؤسسة صناعية وخدماتية، تساوي في السوق المالية ما قيمته 40 مليار دولار، حسب المعطيات الرسمية المقدمة من قبل المنتدى ذاته، الذي تحول إلى قوة ضاربة اقتصادية وسياسية بمشاريع هيمنة واضحة لم تعرفها الجزائر في السابق.
في المقابل رفضت كونفدرالية نقابية للعمال، التي تقدمت بطلب اعتمادها في نونبر الماضي تضم 13 نقابة مهنية، تنشط أساسا في قطاع التربية والصحة والإدارة العامة. نقابات تملك كرب عمل أساسي الدولة الوطنية، بمئات الآلاف من الأجراء الذين غادروا النقابة الرسمية وتوجهوا لتكوين نقابات مستقلة بمجرد الاعتراف الدستوري بالتعددية النقابية في 1990، تحولت عمليا إلى محرك أساسي للحراك الاجتماعي والمطلبي في الجزائر.
قبول ورفض سيعيدنا لا محالة إلى السياسة التي حاولنا تفادي الحديث عنها هذا الأسبوع، على الرغم من الحجج «القانونية»، التي قدمتها وزارة العمل وهي ترفض طلب نقابات التوظيف العمومي، التي ركزت فيه على عدم احترام المادة 2 من قانون 14/90 التي تمنع
-حسب القراءة التي قامت بها وزارة العمل ـ انتماء النقابات المؤسسة لهذه الكونفدرالية إلى قطاعات اقتصادية متنوعة، زيادة على عدم توفر شروط تكوين نقابات من أصله من بعض أصحاب الملف، بسبب ضعف التمثيل داخل القطاعات التي تنشط فيها هذه النقابات.
«نقاش قانوني» سيعيدنا إلى السياسة مباشرة، على الرغم من أننا حاولنا هذا الأسبوع الهروب من مطب السياسة والانتخابات بشكلها المقزز والمخيف، الذي ظهرت به قبل انطلاق الحملة الانتخابية رسميا، فالذي لا تقوله الوزارة إن الحكومة ـ مفهوم النظام السياسي يكون أقرب للواقع- ترفض أن تظهر على الساحة النقابية كونفدرالية مستقلة تنافس الاحتكار الذي يمارسه الاتحاد العام للعمال الجزائريين كنقابة تاريخية، بأجندتها الرسمية المعروفة. نظام سياسي يريد أن يستدرك الاعتراف القانوني النصي الذي قام به للنقابات المستقلة في ظرف تاريخي، لم تكن موازين القوى السياسية لصالحه، في بداية انطلاق عملية الانتقال السياسي، عقب أحداث أكتوبر 1988 الشهيرة في الجزائر التي هزت بقوة كل مؤسساته، سمحت ببروز حراك شعبي قوي غير في موازين القوى بين المواطنين والنظام السياسي. استدراك قام به النظام لاحقا لكل ما تم إنجازه خلال هذه الفسحة الديمقراطية القصيرة، التي ميزت الربيع الجزائري في بداية التسعينات. بعد أن تم إفراغ كل الإطار القانوني الممنوح للجمعيات والأحزاب والنقابات، التي حصلت على اعتراف دستوري وقانوني بوجودها، لكنه أفرغ من محتواه الفعلي، تطبيقا للقاعدة العربية المشهورة التي تكلم عنها تقرير التنمية الإنسانية لسنة 2004، «نحو الحرية في العالم العربي» الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، التي مفادها أن ما يمنحه الدستور في المنطقة العربية، يقلص منه القانون وتلغيه الممارسة الفعلية على أرض الواقع.
عداوة تقابل بها ظاهرة النقابات المستقلة في الجزائر لا يمكن فهمها إلا بالعودة إلى قراءة الرهانات السياسية التي يعيشها النظام السياسي في الجزائر، خلال العقدين الأخيرين، بأزمة الشرعية التي يتخبط فيها والأدوار الممنوحة للنقابة الرسمية في الدفاع عن الأوضاع القائمة، بعد أن تم ترسيخ أدوار سياسية تعبويه للاتحاد العام للعمال الجزائريين كنقابة رسمية. اتحاد يريد أن يعيد الساحة النقابية إلى حالة الأحادية، التي كانت سائدة قبل المصادقة على دستور 1989 الذي اعترف بالتعددية النقابية، وحق الإضراب كجزء من الحريات الجديدة التي جاء بها داخل نظام يشكو من أزمة شرعية كبيرة تجعله في حاجة إلى هذا النوع من النقابات التعبوية، التي عرفتها المنطقة العربية والإفريقية في خمسينات وستينات القرن الماضي.
رؤية تضع النظام السياسي في حالة تناقض مع الاتفاقيات الدولية، التي صادقت عليها الدولة الجزائرية في ميدان الشغل والحريات النقابية، كما تضعه في حالة عدم توافق مع التحولات العميقة التي يعرفها عالم الشغل في الجزائر ذاتها، بعد أن تحول القطاع الخاص وليس القطاع العام إلى رب العمل الأول في الجزائر. وانطلق التشكيك في العقد الاجتماعي الذي كان يبرر وجود هذا النوع من النقابات التعبوية، التي تخدم السلم الاجتماعي كما يفهمه رب العمل، وتدافع عنه هذه النقابة التاريخية، على حساب دورها المطلبي. خريطة نقابية أحادية إن تم تبنيها فعلا ستؤدي إلى تسريع القضاء على الفئات الوسطى في الجزائر، التي تمثلها فئات مهنية على غرار الأطباء والمعلمين وموظفي الإدارة العمومية، كانوا لوقت قريب -وما زالوا جزئيا- يحتلون مواقع مهمة كقاعدة اجتماعية للدولة الوطنية التي بدأت في التنكر لهم لصالح فئات اجتماعية جديدة، تأتي على رأسها فئة رجال الأعمال وحديثي النعمة، الذين بدت على سلوكهم السياسي شراهة كبيرة في السنوات الأخيرة أوصلتهم إلى السيطرة على مواقع مهمة داخل الحزب السياسي والبرلمان والحكومة. مقابل تسريع في القضاء على هذه الفئات الوسطى الأجيرة بكل الأدوار التقليدية -بما فيها الأدوار السياسيةـ التي تعودت على القيام بها تاريخيا. غياب هذه الأدوار الذي يُعد من الأسباب الرئيسية لحالة الاضطراب التي يعيشها النظام السياسي الجزائري، الذي يعيش حالة فقدان توازن فعلي، بعد أن بدأ جديا في فقدان قواعده الشعبية القديمة، من دون أن يستبدلها تماما بفئات اجتماعية جديدة، ما يجعله في حاجة إلى البحث عن أشكال شرعية جديدة تغطي عليها هذه الممارسة النقابية التي يمتاز بها الاتحاد العام للعمال الجزائريين، بكل الشعوبية الملازمة لها. شرعية لا يستطيع الحصول عليها هذا النظام السياسي عن طريق الأدوات المعروفة لكسب الشرعية، كالانتخابات النزيهة، ما يجبره على البحث عنها عن طريق هذه الممارسة النقابية التي يريد تعميمها على الجميع، بما فيها النقابات المستقلة التي سيقبل بوجودها بكل تأكيد لو تطوعت لملء استمارات الترشح للعهدة الخامسة، قبل انطلاق الحملة الانتخابية رسميا، كما تفعل قيادة الاتحاد العام هذه الأيام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى