الرأي

فاصوليا أمبرتو إيكو

يحقّ للكثيرين أن يتذكروا الكاتب الإيطالي الكبير الراحل أمبرتو إيكو (1932 ـ 2016)، من خلال روايته الفريدة «اسم الوردة»؛ أو «ستّ نزهات في غابة السرد»، للذين يثمنون شخصيته كناقد أدبي، ومتبحر فذّ في علم الدلالة. وقد يختار البعض عمله الفلسفي اللامع، المبكر، «تطور علم الجمال في القرون الوسطى»، 1959؛ أو محاضرته، هائلة التأثير، «نحو حرب عصابات في صفّ السيميولوجيا»، 1967، التي ستظهر بعدئذ في كتاب لا يقلّ إشكالية: «الإيمان بالمزيفات». وربما فضّلت شريحة من القراء أن تذهب نحو زاوية خاصة تماماً في الأنثروبولوجيا؛ عبر البرنامج الدراسي غير العادي الذي أطلقه إيكو في جامعة بولونيا، سنة 1988: دراسة أناسة الغرب، ولكن من وجهة نظر باحثين من إفريقيا والصين.
من جانبي، ومع اتفاقي التامّ مع هذه الخيارات في الاستذكار، أعود إلى مقالة لامعة، واستثنائية، كتبها إيكو حول… الفاصوليا! وكانت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، مع دخول الإنسانية في الألفية الجديدة، قد طرحت على عدد من الكتّاب والمفكرين والعلماء هذا السؤال: ما أهمّ المخترعات في الألفية التي سلفت؟ وكان المرء ينتظر إجابة مثل تلك التي تختار رقاقة الكومبيوتر المحتوية على ملايين المعطيات، في مساحة سنتمتر واحد، من سطح معدني رقيق لا يتجاوز سماكة شفرة الحلاقة. إجابة أخرى سوف تختار جهاز التلفزيون، الذي كسر الحدود وحطّم الحواجز واقتحم الفضاءات وأقحم الفضائيات؟ أو شبكة الإنترنت. أو..، إذا عدنا قليلاً إلى الوراء، كليشيه الطباعة في تصميم غوتنبرغ. أو الآلة البخارية، الدينامو، الهاتف، الآلة الكاتبة أو حتى الغراموفون…
لكن إيكو شاء إحداث المفاجأة: أهمّ اختراعات البشرية في الألفية السالفة هي حبّة الفاصوليا! نعم، حبّة الفاصوليا والعائلة البقولية بأكملها: اللوبياء والعدس والبازلاء. لماذا؟ لأنّ الاختراع الحقّ، والأهمّ، هو ذاك الذي يحفظ النوع الإنساني، وينتقل به من الدمار إلى النماء، ومن الفناء إلى الحياة. وهو ذاك الذي يتدخّل في منعطف حاسم من التاريخ الإنساني، لينتشل البشر من عصور الانحطاط أو الخراب أو الموت العميم. وهو ذاك الذي تسري عليه القاعدة الشهيرة: الحاجة أمّ الاختراع.
وهذه الحبوب، الإعجازية في رأي إيكو، تحتوي على قِيَم بروتينية تعادل أو تتجاوز ما تحتويه اللحوم من القِيَم البروتينية ذاتها. إنها، في عبارة أخرى، بمثابة «اللحم النباتي» الذي عوّض فقراء أوروبا، في عصور الظلام بخاصة، عن اللحم الحقيقي الذي كان الأغنياء يحتكرونه لأنفسهم. لقد كان هؤلاء يملكون اللحم الحيواني، واللحم الداجن، واللحم البحري. وكانوا يملكون الصيد الطبيعي أيضاً، لأنّ الأرض والسماء والماء كانت مشاعاً لهم، أو للدولة التي ليست سوى امتداد إداري لسلطتهم.
وقبل اختراع البقوليات كان سوء التغذية يفتك بفقراء أوروبا، وكان بمثابة التجسيد النموذجي لما نطلق عليه اليوم تسمية «أسلحة الدمار الشامل»: من مجاعة إلى أخرى، ومن وباء إلى جائحة، ومن السلّ والجذام إلى الكوليرا والأورام الخبيثة. ولقد أخذت أعداد السكان تتناقص سريعاً، حتى أنّ أوروبا بأسرها صارت لا تعدّ أكثر من 14 مليوناً في القرن السابع. وليس بغير أسباب وجيهة أنّ تلك الأحقاب، الممتدة منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس وحتى العام 999، استحقت صفة «عصور الظلام»، وبامتياز في الواقع.
وفي مطلع القرن العاشر انتشرت زراعة البقوليات، واكتشف الفقراء أنّ طبقاً من العدس المسلوق يمكن أن يعادل شريحة سمينة من لحم البقر، وباتوا قادرين على تحصيل المزيد من البروتين الرخيص (الذي كان الأغنياء يحتقرونه، لحسن الحظ!)؛ فأصبحوا «أكثر نشاطاً، وعاشوا زمناً أطول، وأنجبوا ذرّية أفضل وأكثر عدداً، وضاعفوا أعداد سكان القارّة»، كما يقول إيكو. ولولا حبّة الفاصوليا، يتابع الراحل، «ما كان عدد سكان أوروبا سيتضاعف خلال قرون قليلة، وما كنّا اليوم سنُعدّ بمئات الملايين، وما كان بعضنا ـ بمَن فيهم قرّاء هذه المقالة ـ سيبصرون النور».
وإذا كانت حكاية حبّة الفاصوليا قد اقترنت عند إيكو بدلالات بيئية واجتماعية وأنثروبولوجية وثقافية ـ حضارية، ويذهب إلى درجة اعتبارها «منقذة الحضارة الإنسانية»؛ فإنها، في أيامنا هذه، ينبغي أن تقترن مباشرة بما يجري في اجتماعات كبار الكون الأغنياء الأقوياء، سواء أكانوا سبعة، أم ضمّوا إليهم عشرة أم عشرين من جياع المعمورة؛ حول كيفية وقف الارتداد إلى عصور الظلام. وفي الماضي كان الأغنياء يحتقرون بروتين الفقراء ويكتفون باللحم السمين، أمّا اليوم فإنّ جحافل البرابرة الجُدد تريد أكل الأخضر مثل اليابس: من حبّة العدس، إلى رقاقة الكومبيوتر، مروراً بالآدميّ الكامخ بينهما!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى