شوف تشوف

فضيحة الوزير الداودي والأميرة القطرية

تحكي كتب التاريخ أن الأميرة الأندلسية ولادة بنت المستكفي أبصرت يوما نساء يعجن الطين بأرجلهن لصناعة أواني الفخار، فاشتهت أن تفعل ذلك هي أيضا، فكان من أبيها المستكفي بالله أن أمر كل صناع العطور في مملكته بتحضير كمية كبيرة من أجودها إلى قصره، وأمر بأن يتم استقدام أجود أنواع الأتربة وأنعمها ملمسا، لتقوم الأميرة المدللة بعجن العطر والكافور بدل الماء والطين، فقط لأنها اشتهت أن تكون صانعة فخار.
كان هذا قبل عشرة قرون من الآن، أي في القرن الحادي عشر الميلادي. واليوم ونحن في القرن الواحد والعشرين، اتخذ وزير التعليم العالي لحسن الداودي قرارا مشابها لقرار المستكفي بالله، عندما أعطى موافقته على تنقل شعبة بكاملها من كلية الحقوق من مقرها الرسمي بالرباط إلى غاية الدوحة عاصمة إمارة قطر، فقط لأن بها أميرة اشتهت أن تكون طالبة على مزاجها الخاص.
وعوض أن تحضر الأميرة للكلية لاجتياز الامتحانات، شأنها شأن باقي الطلبة، فإن الداودي قرر أن يرحل الكلية إلى قصرها لتجتاز امتحان الإجازة.
الوزير لحسن الداودي، الذي يعرف جيدا أن أيامه أصبحت معدودة في وزارة التعليم العالي، بدأ يستعد للمجهول القادم في مستقبل الأيام، لاسيما وهو الذي ذاق نعيم البيترودولار عندما كان مستشارا لأحد البنوك الخليجية، لذلك «بدا يدير زوين» مع أغنياء الخليج مرة أخرى، وهم الذين لم يبخلوا عليه من «كراماتهم» حتى وهم يعرفون أن أطروحته الجامعية حول الاقتصاد الإسلامي التي أنجزها في الثمانينات لا تستحق حتى أن توضع في رفوف مكتباتهم، ليس فقط بتشجيع استثماراتهم في التعليم العالي الخصوصي، بل أيضا بتسخير الجامعة المغربية، وضرب قوانينها عرض الحائط من أجل عيون أميراتهم، «بنادم هو اللي يدير علاش يرجع».
وحتى لا يسرح خيالكم بعيدا، فالأمر لا يتعلق قطعا بنكتة سمجه، بل هي الحقيقة المرة. فلحسن الداودي وصديقه المعين حديثا رئيسا لجامعة محمد الخامس قررا أن يرسخا العلاقات المغربية القطرية بطريقتهما الخاصة، ويرسلا سبعة من الأساتذة الجامعيين بكلية الحقوق بالرباط، في مهمة فريدة من نوعها، وليس من أجل البحث عن تمويل لمشاريع علمية، أو منح للفقراء من الطلبة المغاربة، أو من أجل بحث سبل التعاون العلمي والتربوي مع الجامعات الدولية الكبرى التي تفتح فروعها في قطر، بل من أجل إجراء امتحان آخر السنة لأميرة قطرية تعد طالبة في سلك الإجازة بكلية الحقوق بالرباط.
نعم لقد تم ترحيل شعبة بكاملها نحو الدوحة من أجل عيون الأميرة التي حصلت على تسجيلها في الكلية خلال تحمل الوزير الحالي خالد برجاوي مسؤولية عمادة كلية العلوم القانونية والاقتصادية بالرباط، فبدل أن تتعب هي وتشقى وتتحمل «المسكينة» تعب السفر في مقصورتها الأميرية على متن الخطوط الجوية القطرية ذائعة الصيت بجودة خدماتها، نحو الرباط لاجتياز امتحان الأسدس في آخر السنة، قرر الوزير وصديقه أن يقوما بـ«الواجب» ويقوما بترحيل الجامعة جوا إلى الدوحة من أجل الأميرة «باش تفاليدي الوحدات ديالها».
طبعا كل هذا قانوني جدا، حسب معالي الوزير، فسعادته، وهو المالك لناصية الفتاوى القانونية في كل شيء، اعتبر هذا القرار يدخل في باب ما أسماه «كل ما هو غير ممنوع بموجب قانون فهو مباح»، مشيرا إلى عدم وجود نص قانوني يمنع بشكل صريح هذا الإجراء، مستدلا بأن الأساتذة يتنقلون إلى السجون لإجراء الامتحانات لسجناء.
لذلك فحسب هذا الوزير الضليع في القانون، فالقانون المنظم للتعليم العالي يمنح هامشا كبيرا لرؤساء المؤسسات الجامعية للاجتهاد في اتخاذ بعض القرارات، وذلك شريطة احترام مبدأ الشفافية والضوابط البيداغوجية، وخاصة مع الطلبة الأجانب الذين يتابعون دراستهم بالمغرب، متحدثا عن وجود تطور كبير في الراهن لوسائل التعليم وامتحان الطلبة، من قبيل الدراسة عن بعد وإجراء الاختبارات عن بعد، دون الحاجة إلى ضرورة حضور الطالب إلى الجامعة لاجتياز الامتحانات.
وليسمح لنا السي لحسن الداودي للنظر قليلا في فتواه، والتي تتضمن مغالطات لن تنطلي علينا، لأن زمن المماليك قد ولى إلى غير رجعة.
فبخصوص عدم وجود نص قانوني يمنع تنقيل أساتذة من الرباط إلى الدوحة من أجل تقويم الأميرة الطالبة، فهذه مغالطة كبرى، فإذا عدنا إلى دفاتر الضوابط البيداغوجية التي وقع عليها الوزير ذاته، وتم نشرها في الجريدة الرسمية يوم 1 يناير 2015، سنجد بشكل واضح أن الطلبة يتم امتحانهم على شكل المراقبة المستمرة، بمعنى أن الطالبة الأميرة عليها أن تداوم على الحضور للكلية والخضوع للامتحان شأنها شأن زملائها، سواء على شكل عروض أو تقارير «أو أي وسيلة أخرى للمراقبة».
هكذا يقول القانون الذي وقع عليه الداودي شخصيا، فالمراقبة المستمرة هي طريقة تقويم الطلبة في سلك الإجازة والماستر معا، وبالتالي كان يجدر أن يتم اعتبار الطالبة الأميرة في حكم المتغيبين، وعليها إحضار دليل قانوني يبرر غيابها لتتمكن من اجتياز امتحان استدراكي، وإلا فالقانون يجبر الكلية على إقصائها واعتبارها راسبة.
وارتباطا بنفس الحجج التي استند عليها الداودي في إقدامه على هذه النكتة، فالجامعة يسيرها مجلس وليس الرئيس كما ادعى، والمجلس هو الذي يقرر هوامش الاجتهادات في قوانين الدراسة والتقويم. وإذا عدنا إلى هذه القوانين المعمول بها في جامعة محمد الخامس تحديدا، والتي تنشرها كل كليات هذه الجامعة علانية ليطلع عليها الطلبة، سنجد بوضوح حضور المراقبة المستمرة كشرط للنجاح. مما يعني أن الداودي ورئيس الجامعة معا خرقا القانون بفعلتهما هذه، وإلا فإنه يحق لأي طالب في جامعة محمد الخامس أن يطالب بأن ينتقل كل أساتذة شعبته إلى غاية منزله، أو إلى سرير نومه ليقوموا بإخضاعه للامتحانات «وسط الكواش»، ولم لا في الحمام أو «فوق السطح كاع»، فالفتوى الداودية تشمل «اجتهادات» كهذه.
وكأني بالوزير نسي كيف كان يتنقل الأمراء المغاربة إلى الجامعات المغربية من أجل تلقي المحاضرات واجتياز الاختبارات، إلى جانب الطلبة المغاربة في قاعات الدرس.
أما انتقال الأساتذة إلى السجون لإجراء الامتحانات للنزلاء، واعتبار ذلك حجة لانتقال الأساتذة السبعة نحو قصر الأميرة، فهذا هو «الطنز العكري» بعينه، لأن النزلاء، وكما هي جارية به قوانين مندوبية السجون، يخضعون لامتحانات تحت أنظار حراس السجن ومراقبتهم، ثم إن لجنة إجراء الامتحانات في السجون لا تتكون من الأساتذة بل من موظفين لا علاقة لهم بالامتحانات التي وضعوها. هذا هو تكافؤ الفرص الحقيقي
آ السي الداودي.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل السادة الأساتذة الذين تم استقبالهم في قصر الأميرة، والذين حصلوا على سبعة ملايين كإكرامية من الأميرة، قاموا فعلا بمراقبتها وهي تجتاز الامتحانات ؟
أين هو تكافؤ الفرص إذن بين طالبة من أبناء الشعب تكتري رفقة زميلاتها بيتا مهترئا في اليوسفية أو القامرة، لكونها تنحدر من المغرب العميق، وتضطر للنوم كالسردين رفقة زميلات أخريات وطالبة من درجة أميرة ستنتقل الجامعة كلها نحوها إلى غاية قصرها لتجتاز الامتحانات ؟
أجزم أن أكثر مؤلفي حكايات ألف ليلة وليلة إغراقا في الخيال ما كان ليتخيل حكاية كهذه. ولكن ولأننا في زمن هذه الحكومة المنتهية الصلاحية فكل شيء ممكن.
ثم في السياق ذاته، من دفع تكاليف سفر وإيواء وتغذية وتنقل «سبعة رجال»، الذين توجهوا للدوحة علما أن تذكرة الطائرة للدوحة تتجاوز 15 ألف درهم ذهابا وإيابا للشخص الواحد؟
فإذا كانت الجامعة هي التي ستدفع، فهل يسمح القانون والأخلاق بأن يصرف المال العام لإرضاء رغبة الأميرة في الحصول على شهادة جامعية ؟ وماذا سيكتب الآمر بالصرف في كلية الحقوق عندما يريد تبرير صرف الملايين من أجل إجازة الأميرة ؟
أما السيناريو الأسوأ، فهو أن تكون الأميرة هي التي تحملت تكاليف سفر وإيواء وتغذية هؤلاء. إذن بالله عليكم هل يمكن لمن تم نقله على متن الدرجة الأولى وإسكانه «سويت» في فندق مصنف، وحصل على مصاريف الجيب لـ «الشوبينغ» من أسواق الدوحة الغالية، هل يمكنه أن يكون موضوعيا في إجراء امتحان لطالبة ؟
ولنتبين حجم الكارثة التي حلت بكلية الحقوق بالرباط اليوم، يكفي أن نعود إلى الخطاب الملكي لـ20 غشت 2013 حيث سنجد الملك محمدا السادس يذكر بافتخار واضح بكونه خريج هذه الكلية، في إشارة قوية إلى أنه خريج جامعة عمومية، ضدا على هذا المسخ العجيب الذي يصر الداودي على تكريسه بتشجيعه السافر للجامعات الدولية الخاصة.
ولكن ها هم المسؤولون عن هذه الكلية ذاتها، التي افتخر ملك البلاد بأنه تخرج منها، يصغرون من حجمها بهذا الشكل المخجل، فبدل أن يضعوا هذا الاعتراف تاجا على رؤوسهم، لتعزيز مكانة هذه الكلية التي تخرج منها كبار رجالات المغرب منذ الاستقلال، ها هم يضعون إمكانات الكلية، ببشرها ومالها، من أجل راحة طالبة غير عادية، فقط لأنها أميرة قطرية، في الوقت الذي يضطر فيه أمراء العالم وأبناؤهم للسفر نحو المدارس العليا والجامعات العالمية ليتكونوا تكوينا عاليا، حيث يجبرون على أن يقطنوا الأحياء الجامعية ويلبسوا مثلهم مثل بقية الطلبة الزي الرسمي الخاص بالجامعة، وتمنع عليهم سياراتهم وخدمهم وحشمهم لأنهم طلاب علم.. مقابل ذلك ها هو الداودي، خريج جامعة ليون الفرنسية يا حسرة، يرجع الجامعة المغربية إلى زمن المماليك وغنج ولادة بنت المستكفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى