شوف تشوف

الرأي

فيزل والهولوكوست.. رحل التاجر وبقيت التجارة (2/2)

فيزل كان لتوّه قد ارتكب زلة لسان ذات دلالة كبرى، وذلك حين أطلق على ضحايا اليهود صفة «الشعب»، وأطلق على الضحية البوسنية صفة «المسلم»؛ فأخرج المسيحي واليهودي من دائرة الإفناء (الأوّل أبقاه في الدائرة الحضارية الأوروبية، والثاني في الدائرة إياها بعد إضافة فظائع الهولوكوست)، وأبقى على المسلم في دائرة التراحم والشفقة والعطف، ليس أكثر.
وفي كتابه الشهير، «كلّ الأنهار تصب في البحر.. مذكرات»، شنّ فيزل حملة اتهامات جديدة ضد لائحة طويلة من اليهود الذين تعاطفوا مع عذابات الفلسطينيين، تحت الاحتلال وبعد أوسلو الأولى والثانية، وليس قبلئذ كما يمكن للمرء أن يتخيل. وبين ضحاياه كان جان دانييل، الصحافي الفرنسي (اليهودي) المعروف ورئيس تحرير أسبوعية «لونوفيل أوبزرفاتور»، لأنه يواصل انتقاد دولة إسرائيل «حتى في هذه الأيام العصيبة»؛ كما هتف فيزل مندهشاً، وذلك يرقى إلى ارتكاب الإثم الأكبر في يقينه. وفي واحدة من فقرات ردّه، المطوّل، كتب دانييل: «يريدنا فيزل أن نصدّق أنه ما يزال يعيش في معسكر الاعتقال، وما يزال ضحية القمع والاضطهاد، وأنّ الحياة لم تخفف من آلامه أبداً، ولم تجلب له أي اعتراف بالألم، وأيّ تكريس، وأي شرف. ويريدنا أن نؤمن أن حيازة كرسي جامعي في هارفارد، والحصول على الجائزة الأدبية الأمريكية الأرفع (ميدالية الكونغرس الذهبية للإنجاز)، وجائزة «نوبل» للسلام، والصداقات الحميمة مع رؤساء فرنسا والولايات المتحدة، والشهرة العالمية، والنفوذ الواسع، والتوزيع الخرافي لأعماله الشخصية المترجمة إلى عشرات اللغات، كل هذا لا يُقارن إلا بصبر أيوب أمام عَرَض الدنيا الفانية»!
وأمّا في الولايات المتحدة، فقد بدا فيزل وكأنه مندوب غير مباشر عن منظمة الـ«AIPAC»، أشهر هيئات اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة وأشدّها شراسة؛ في تأثيم عدد من كبار الكتّاب والصحافيين والفنّانين الأمريكيين اليهود، واتهامهم ليس بالتخاذل والخور في الدفاع عن دولة اليهود فحسب، بل كذلك بالتهمة العظمى: العداء للسامية! بين هؤلاء، مثلاً: وودي ألن، الممثل والسينمائي المعروف؛ وميلتون فيورست، المحرر المتجوّل في مجلة «نيويوركر»؛ وسيمور هيرش، الكاتب والمحقق الصحافي المعروف؛ ومايكل ليرنر، الحاخام المستنير ورئيس تحرير المجلة اليهودية الثقافية ـ الفكرية «تيكون». وحين سقط في فخّ النصّاب الأمريكي الدولي برنارد مادوف (اليهودي بدوره)، فاستثمر عنده وخسر 15,2 مليون دولار هو وزوجته؛ كان لافتاً كيف انقلب مادوف، في ناظر فيزل، من «سبط الإحسان اليهودي» إلى «اللص الأقذر على وجه الأرض»!
وفي الخطّ ذاته، ليس ثمة غرابة في أن الكاتب الأمريكي (اليهودي) المعروف نورمان فنكلشتاين ـ في كتابه المتميز «صناعة الهولوكوست»، وكذلك في عمله التالي «أمّة تحت المحاكمة.. أطروحة غولدهاغن والحقيقة التاريخية» ـ اقتبس مراراً مسلك فيزل الإجمالي وممارساته العملية ومواقفه وكتاباته؛ وذلك بغية تأمين قسط وافر من الحجج التي ساقها ضدّ تحويل عذابات اليهود إلى صناعة وتجارة، وتأثيم الأمّة الألمانية إجمالاً بهدف ابتزازها، حتى أنه أطلق على فيزل صفة «المهرّج المقيم في سيرك الهولوكوست». وحول شغف فيزل بالكذب والتكاذب، نختار من فنكلشتاين هذا المثال الصارخ: في كتاب مذكّراته يشير فيزل إلى أنه قرأ كتاب إيمانويل كانط «نقد العقل الخالص» وهو في السادسة عشرة من عمره، باللغة الإيديشية. لكنّ الحقيقة ـ وبمعزل عن اعتراف فيزل نفسه بأنه في ذلك الطور كان جاهلاً تماماً بالإيديشية ـ تشير إلى أنّ كتاب كانط… لم يُترجم أبداً إلى تلك اللغة!
فهل، بعد رحيل فيزل، القيّم عليها وحامل أختامها، سوف تنقرض صناعة الهولوكوست وتجارتها؟ أم أنها باقية، وتتمدد، في انتظار وَرَثة آخرين كثر؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى