شوف تشوف

الرأي

قبل فوات الأوان

بين التهديد باستخدام القوة ضد شبكات تصدير الهجرة غير الشرعية، القادمة من الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، وبين إبداء قدر أكبر من التضامن الأوروبي مع اليونان في مواجهة أزمتها الاقتصادية والمالية، تتجلى مفارقة صارخة تنطبع بها السياسة الأوروبية. فهي أكثر تضامنا وشعورا بالمسؤولية كلما تعلق الأمر بفضائها المسيج بأسوار التأشيرة، وأقل إنسانية وإنصافا عندما تكون المشاكل خارج دائرتها الجغرافية والسياسية.
الرغبة المجسدة عبر القروض السخية والعطاءات المتواصلة، لا تنحصر في إنقاذ اليونان الذي لم يعد يحجب غير الجزء الظاهر منها كدولة مفلسة، بل تتعداه إلى تأمين منطقة الأورو بأسرها. ولا يبدو أن رنين العملات يثير الفضول، طالما أن مرشحي الهجرة غير الشرعية ينتسبون إلى بلدان لا يزيد نفوذ عملاتها عن حدودها الضيقة. إلا أن المشكل ليس مصدره أن الاتحاد الأوروبي جيش كل آلياته وإمكاناته لإنقاذ البلد الذي كان منبع الفلسفة والحضارة، بل إن جوهره أن تنظيمات إقليمية مثل الاتحاد الإفريقي أو الجامعة العربية أو منظمة العمل الإسلامي لا تكلف نفسها عناء البحث عن حلول لمشاكل واقعة تحت نفوذ دائرتها السياسية.
انهارت دول إفريقية وتمزقت وحدتها وانتهكت سيادتها، وغاب الاتحاد الإفريقي عن مجرد الإلمام بهكذا أزمات تنتقل عدواها من بلد لآخر، لأن مفهوم التضامن لا وجود له، فيما النظرة إلى الدول الإفريقية لا تزيد عن احتساب أصواتها عند أي تصويت، ولو كان يخرق ميثاق المنظمة. كذلك هو حال جامعة الدول العربية التي لم يعد أحد يسمع عنها، وقد تعرضت دول عربية قائمة الذات إلى احتلال أجزاء منها ونزوح الجزء الأكبر من سكانها. وأصبح التعايش مع واقع التجزئة والتقسيم أقرب إلى التطبيع مع أخطر مشاكل العصر، أي تكريس البلقنة بذرائع دينية أو مذهبية أو طائفية أو إرهابية باختصار.
يقدم الاتحاد الأوروبي دروسا تلو الأخرى في الاهتمام بمحيطه. فقد كان أكثر سخاء مع بلدان المعسكر الشرقي الخارجة من أتون الحرب الباردة، عبر ضمها إلى فضائه الذي عرف توسعا لا مثيل له في ظرف وجيز. ودخل في مواجهة عبر سلاح العقوبات ضد روسيا بسبب أزمة أوكرانيا. وسخر كل إمكاناته لمساعدة إسبانيا ومنح اليونان أكثر من قدراته لإعانتها في مواجهة الإفلاس. إلا أنه عندما تندلع أزمات في غير محيطه، يكتفي بتصدير السلاح وضربات حلف الناتو، ثم يقف متفرجا على معارك الإخوة-الأعداء الذين يقتتلون مع بعضهم، كما يحدث في ليبيا وسوريا والعراق ومناطق إفريقية.
ماذا فعلت المنظمات الإقليمية عربيا وإفريقيا وإسلاميا؟ الأكيد أن غيابها عن القيام بأدوار ملموسة لاستنهاض الأوضاع المأساوية له جذوره وخلفياته. فقد تنبهت جامعة الدول العربية، قبل استفحال الأزمات الراهنة، إلى ضرورة تغيير قوانينها وميثاقها وبنياتها ومجالات إسهاماتها، انطلاقا من فكرة أن ظروف تأسيسها طالتها متغيرات كثيرة وجوهرية. إلا أنها لم تفلح في أن تصبح الإطار القانوني والسياسي، صاحب النفوذ المؤثر في صياغة القرارات العربية. بل إن مكوناتها باتت جزءا من الأزمة، بعد أن كانت عنصر قوة وتضامن. وتغلب التفكير الانفرادي والأحادي ضمن هذه المكونات على الرؤية الجماعية، ولم تعد أي دولة تفكر في غير تخليص نفسها من طرق الأزمة الخانقة.
حتى الموارد المالية للدول العربية المنتجة للنفط تعرضت للانكماش، وما تبقى من تداعيات خفض سعر برميل النفط في السوق الدولية، تولت التنظيمات الخارجة عن القانون الإجهاز عليه، عبر الاتجار غير المشروع في موارد دول مثل العراق وليبيا وسوريا أيضا على رغم ضآلتها. غير أن الدرس الأوروبي يؤكد بما لا يدع مجالا للنقاش أن المال والاقتصاد هما عصب عملية الإنقاذ. ولن يكون في وارد العودة إلى مجال تأثير المال والنفط العربي، مع بقاء حالات التشرذم والاستنزاف التي تعتبر أكثر خطورة من الحروب المفتوحة والمحدودة في الزمان والمكان.
تلتئم القمم عربيا وإسلاميا وإفريقيا، تغلب عليها الخطب الرنانة والوعود المعسولة، ثم يعود الجميع إلى مربط فرسه. أ كان أوضاعا متأزمة أو انفراجا داخليا. وحين يطرح السؤال المحوري حول مدى متابعة تنفيذ القرارات والاستئناس بالتوصيات، تحال كل الملفات إلى القمم القادمة. لكن المنهجية التي يدير بها الاتحاد الأوروبي العناوين الكبرى لأزماته تنطبع بخلاف ذلك بسلوك المثابرة واقتراح الحلول واستمرار المشاورات. لا أحد يصم الآذان عن سماع أخبار الأزمات المالية والاقتصادية، ولا أحد يدعي أنه في مأمن من شظاياها المتناثرة. الوزراء المعنيون بالقطاعات المالية والاقتصادية يجتمعون ويتدارسون الحلول ويقررون في طرائق المعالجة، والقادة يتداولون في الأبعاد السياسية لأي أزمة، من منطلق الوحدة والتضامن، فيما المؤسسات النقدية العالمية تضطر للخضوع إلى تأثير الوازع السياسي، لأنها في حالات الدول الأوروبية تلغي منطق فرص الحلول، وليس كما يحدث في البلدان الناشئة أو المتخلفة التي تضطر للإذعان والانصياع إلى قرارات مراكز النفوذ المالي والاقتصادي.
عندما تصبح الوحدة والسيادة آخر شيء، يتم التفكير في صيانته من أشكال التهديدات الداخلية والخارجية.. لا يمكن توقع حماية استقلالية القرار المالي والاقتصادي. وما كانت المنظمات الإقليمية التي اخترعها العقل السياسي، إلا لتنصهر فيها إرادة العمل الجماعي، ففي تجارب سابقة ومشهودة كان العالم برمته يتداعى لمناهضة التجزئة والانفعال حين تتعرض دولة ما إلى هكذا مخاطر. أما اليوم فقد بات التفكير في فعل شيء لوقف نزيف انهيار الدول والكيانات مجرد ترف فكري، تتحكم فيه ثقافة تعاطف المشاعر.
في التجربة الأوروبية حيال أزمة اليونان ما يفيد في فهم مسار الأحداث والتطورات قبل فوات الأوان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى