شوف تشوف

دين و فكر

قضية ترك السنن : من مشكلات علم الفقه والأصول

إلياس بلكا

يفسر الأصوليون المندوب بما فِعله خير من تركه، أو بالمأمور الذي لا يلحق الذم بتركه.
والحقيقة أن تتبع كثير مما قيل فيه: إنه من المندوب، واستقراء كلام العلماء بخصوصه يشير علينا بألا نأخذ هذا التعريف بهذا الإطلاق وهذا العموم. ويتبين ذلك -خاصة- حين ندرس موقف الفقهاء من ترك المندوبات؛ فهم يفرقون بين ترك السنة المؤكدة -وهي سنة الهدْي في اصطلاح الحنفية- وترك غير المؤكدة، ثم يُفرقون بين هذه والرغائب والنوافل، وهكذا.
فأما النفل، فقد صرح العلماء بأنّ فيه الثواب، ولا عقاب ولا لوم على تركه مطلقاً، وهذا يُكتفى بالدعوة إليه وبيان فضله من دون إلحاح كثير على الفعل وذَم للتارك.
وأما السنن فمقتضى إدخال العلماء إياها تحت ما يُـندب إلى فعله ألا يذم تاركها ولا يعاقب، لكن نصوصاً كثيرة للفقهاء -من مختلف المذاهب- تواردت على أن تارك السنن مطلقاً مذموم، بل قال ابن الهمام: هو «مضلل ملوم». وعلـّل الرازي ذلك، فقال: «إنما ذم الفقهاء من عدل عن جميع النوافل، لاستدلالهم بذلك على استهانته بالطاعة وزهده فيها، فإن النفوس تستنقص من هذا دأبه وعادته». ولم أر من العلماء من يعترض على هذا القدر من الحكم، أعني اللوْم أو شبهه.
لهذا يلاحظ في كتب الفروع أن الفقهاء ينظرون إلى بعض السنن على نحو قريب مما ينظرون إلى الواجبات. ويستطيع القارئ إدراك ذلك من خلال بعض المسائل الفقهية: مثلاً لو ترك المصلي بعض سنن الصلاة عمداً، فإن مذهب المالكية هو ما ذكره ابن رشد الجد، قال: «.. وأما النقصان على طريق العمد، فإن كان فريضة أبطل الصلاة، كان من الأقوال أو من الأفعال؛ وإن كان سُنة واحدة فقيل يبطل الصلاة وقيل يستغفر الله ولا شيء عليه. وإن كثرت السنن التي ترك متعمداً أبطلت الصلاة، وإن كانت فضيلة فلا شيء عليه». ومن أوضح الأمثلة أيضاً اختلاف الفقهاء في حكم الآذان وصلاة الجماعة وغـيرهما من السنـن.. ولهذا قال ابن رشد الحفـيـد: «..حتى إن بعضهم يرى أن في بعض السنن ما إذا تُركت عمداً إن كانت فعلاً، أو فعلت عمداً إن كان تركاً، أن حكمها حكم الواجب: أعني في تعلـّق الإثم بها، وهذا موجود كثيراً لأصحاب مالك… فكأن العبادات بحسب هذا النظر منها ما هي فرض بعينها وجنسها مثل الصلوات الخمس، ومنها ما هي سنة بعينها فرض بجنسها مثل الوتر وركعتي الفجر، وما أشبه ذلك من السنن…»
ومن صور هذا النظر الفقهي اعتبار بعض العلماء أن السنة -على غرار الواجب- تنقسم إلى سنة العين وسنة الكفاية.
فإذا تمهد هذا عدنا إلى مسألة حكم ترك السنن، فأقول: إذا كان ترك السنن كلية يوجب اللوم، فإن بعض الفقهاء رتّب الإثم وإسقاط العدالة على هذا الترك. نقل عبد العزيز البخاري عن أبي اليسر أنه قال في السنة: «.. وحكمها أنه يندب إلى تحصيلها ويلام على تركها مع لحوق إثم يسير». ونص على ذلك الحصكفي وابن نجيم، ولهذا قال ابن عابدين: إن السنن المؤكدة قريبة من الواجب. وهؤلاء كلهم حنفية. ورفض ذلك فقهاء آخرون، قال ابن الهمام الحنفي بدوره رداً على مذهب التأثيم: «.. ولا يخفى أن الإثم منوط بترك الواجب.. نعم يستلزم ذلك (أي ترك السنن) الإساءة وفوات الدرجات والمصالح الأخروية المنوطة بفعل سنن الرسول عليه الصلاة والسلام».
ومما يؤيد هذا الرأي ما رواه طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته، ولا نفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة. قال: هل عليَّ غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تَطوع. قال رسول الله: وصيام شهر رمضان، قال: هل علي غيره، قال: لا، إلا أن تطوَّع. قال: وذكر له رسول الله الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطَوع، قال: فأدبر الرجل، وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله: أفلْح الرجل إن صدق.
فهذا الحديث يفيد -كما قال النووي والأبي- أن تارك السنن ليس بعاص بل هو مفلح مع اقتصاره على الفرائض؛ ومادام غير عاص فهو غير آثم.
لكن بعض العلماء استشكل الحديث بأن فيه تسويغاً لترك السنن وهو أمر مذموم، وأجابوا على ذلك بأجوبة كثيرة لم أرهم اتفقوا على أحدها بل ضعفوا أكثرها.
أما رأيي فهو: ليس في التزام ظاهر الحديث إشكال، فيجوز –مبدئيا- ترك السنن، فلا يزال المسلمون متفقين على أن أركان الإسلام خمسة، من أتى بها نجا ومن فرط فيها لم يكن له عند الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه؛ فإيجاب شرائع أخرى غير هذه الفرائض المعلومة أمر شديد. بل لا يصح أن نضع الفرض والسنة في مرتبة واحدة، فهذا يخالف المعلوم من الدين بالضرورة، ويخالف الأصول المُحكمة، التي إليها ردُّ كل غامض مشتبه، لهذا قال ابن العربي: «فلو ترك رجل النوافل كلها واقتصر على الفرائض، ماذا يقال له؟ قلنا: يقال له أفلح إن صدق؛ لأنه قال: هل عليَّ غيرهنَّ، قال: لا، إلا أن تطوع». وهذا الهيثمي قد صرح بجواز ترك التطوعات رأساً، قال: «وإن تمالأ عليه أهل بلد فلا يقاتلون، ومن قال: يقاتلون، يحتاج لدليل.. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، إلا أن تطوع»، صريح في عدم وجوب الوتر والعيد وغيرهما لا عيناً ولا كفاية». وسنكمل الموضوع الأسبوع القادم بحول الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى