شوف تشوف

شوف تشوف

قلة الترابي 2.2

 

كل من شاهد وسمع الشتائم المقذعة التي رفعها التلاميذ أمام البرلمان في حق رئيس الحكومة، سيقارن بين طريقة كلام الطفلة مريم أمجون الراقية والمهذبة أمام صحافيي القنوات الفضائية وبين طريقة كلام هؤلاء التلاميذ المفتقرة للأدب، سيستنتج أن الأسرة هي المسؤول الأول عن مستوى تربية الأبناء.
وشخصيا عندما أمر بجانب تلاميذ خارجين من إعدادية أو ثانوية وأسمع طريقة مخاطبتهم لبعضهم البعض بلغة ساقطة أقول في نفسي “يحسن عوان الأساتذة” مع هذا الجيل، وأتفهم رفعهم للراية البيضاء أمام تغول التلاميذ وأحيانا أمام نوازعهم الإجرامية حيث واجه بعضهم سكاكينهم داخل الفصول.
وأعرف معلمين كثيرين لديهم إمكانية اجتياز مباريات المدرسة العليا للأساتذة بنجاح للارتقاء إلى درجة أستاذ بزيادة في الراتب، لكنهم يحجمون عن ذلك ويفضلون التضحية بالترقي المهني والبقاء كمعلمين يدرسون في التعليم الابتدائي على أن يصبحوا أساتذة يدرسون في الإعدادي والثانوي، بسبب خوفهم من المواجهات مع المراهقين والتي تتطور أحيانا كثيرة إلى عنف لفظي وجسدي.

ما يحدث يدل على أن الأسرة المغربية تعيش خللا بنيويا خطيرا، فأن يكون لدينا مليون ونصف مليون شاب بدون تعليم أو شغل فإن هذا يدل بوضوح على أن المغرب أضحى معملا كبيرا لإنتاج الفاشلين، الذين لا يجدون مشكلة في تخريب ممتلكات الآخرين وتهديد سلامتهم الجسدية وترويعهم إما بسبب فكرة متطرفة أو بسبب مخدر، والمتهم هنا في هذه الحلقة هو الأسرة بالدرجة الأولى والحكومة بالدرجة الثانية.
إن التكلفة الاقتصادية والاجتماعية للاستثمار في تعليم وتكوين الشباب سلاح ذو حدين، فإما أن نقبل بدفع 12 ألف درهم سنويا في تعليم أو تكوين شاب ليحصل على المؤهلات التي تمكنه من الحصول على شغل، أو أننا سنضطر لأن ندفع هذا المبلغ مضاعفا عشرات المرات في المستقبل القريب، فضلا عن المشكلات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية التي نسقط فيها جراء تهاوننا مع تعليم وتكوين الشباب، وهذه المعادلة ما زال واضعو السياسات الاجتماعية والتعليمية ببلادنا لم ينتبهوا لها حتى الآن، والتي انتبه لها كثيرون في دول أخرى، ممن يستثمرون في الرياضة والتربية البدنية مثلا، كالولايات المتحدة، التي أدمجتها في نظامها التعليمي بكل مستوياته، ففي مقابل مائة دولار توفرها الولايات لكل مواطن ليتمكن من ممارسة نشاط رياضي في صالات رياضية أو أندية وفضاءات وملاعب هناك الآلاف من الدولارات تربح في التغطيات الصحية عن كل فرد، لذلك لا نستغرب أن نجد آلاف الطلاب الذين يتمكنون من الحصول على منح في جامعات عالمية كبرى لكونهم أبطالا في رياضات مختلفة، وطبعا لن ننسى هنا الريادة العالمية لمنتخباتها الوطنية في مختلف هذه الرياضات.
أما عندنا فالمدارس بدون فضاءات للعب، إذ كلها أقسام مكتظة، والمبكي هو أن عدد الساعات الرسمية التي تخصص للرياضة في التعليم الابتدائي مثلا، أي في المرحلة العمرية التي يكون فيها الأطفال في عز حركيتهم الجسدية، لا تتعدى 20 ساعة في السنة، وغالبا ما يتم تجنبها، وإذا ما غامر أستاذ معين وطبقها فإنه غالبا ما يعطي كرة واحدة لقسم مكون من 50 تلميذا، يلعبون دون تنظيم بملابسهم العادية.
والكارثة الحقيقية ليست هي خروج الآلاف إلى الشوارع ومقاطعة الدراسة بسبب الساعة، الكارثة الحقيقية هي أن 3 ملايين طفل انقطعوا نهائيا عن الدراسة في السنوات العشر الماضية، وعندما يتم استقطابهم مرة أخرى للعودة إلى الفصول الدراسية، عبر ما يسمى بالتربية غير النظامية، فإن 64 في المائة منهم يعودون للشارع ولا يتوفقون في إتمام دراستهم.
وهؤلاء المراهقون هم الذين يتحولون إلى جانحين يتربصون في الشارع بالمواطنين لسلبهم ممتلكاتهم، وهؤلاء هم الذين يحدثون الشغب في الملاعب، وهؤلاء هم الذين تتربص بهم التنظيمات الإرهابية لتقنعهم بأن هذا المجتمع الذي أهمل تعليمهم وتشغيلهم هو في الحقيقة مجتمع “كافر” يتوجب تدميره.
نعود ونقول إنه من المؤسف أن نجد البرامج التعليمية والتكوينية الموجهة للشباب غالبا ما تكون في أدنى سلم الأولويات بالنسبة للحكومة والمجالس المنتخبة، وعندما يكون برنامج شبابي معين غالبا ما يتم تسييسه وبالتالي إفشاله، مع أن طريق الأمن والتنمية والتقدم يمران عبر الشباب بالضرورة.
إننا أمام وضع كارثي، نفشل في وقاية الأطفال والمراهقين بالتعليم الجيد والتكوين المفيد للحياة، وعندما يسقطون ضحايا أفكار الموت ومخدرات الانتحار نفشل أيضا في علاجهم، وكل ما نفلح في إنتاجه هو تقارير تقرع في كل مرة أجراس الإنذار دون جدوى.
هناك اليوم انحراف خطير يتهدد الأسرة المغربية، التي هي النواة الصلبة للمجتمع، وهنا يظهر الدور الأساسي للأب في التربية، وهناك باحثون يشيرون إلى أن ظاهرة انتشار العنف والفشل الدراسي والعقد النفسية بين الأطفال تعود إلى غياب الأب وإهمال الأم.
علينا أن نكون صريحين ونسأل أنفسنا بوضوح، كم أبا بيننا يذهب إلى المؤسسة التعليمية التي يدرس بها ابنه أو ابنته كل شهر لكي يسأل الإدارة عن سلوكها ومستواها الدراسي ومشاكلها مع الأساتذة ؟
أستطيع أن أقول بأن هناك آباء لا يعرفون حتى المستوى الدراسي الذي يدرس به أبناؤهم، ولذلك فمن السهل أن نتهم الدولة بمسؤوليتها في فشل أبنائنا التعليمي، لكن هل يستطيع أن يعترف الآلاف من الآباء أنهم لا يعرفون أين تقضي بناتهم وأبناؤهم ساعات الفراغ بين حصة وأخرى.
فجميعنا نرى تلميذات في الثالثة عشرة من أعمارهن يوميا في أحياء المدن يجلسن أمام أبواب العمارات يراقبن مرور السيارات، ونراهن رفقة تلاميذ في أعمارهن يتجولن بحقائبهن فوق ظهورهن بين مقاهي الشيشة ونوادي الغولفازير المنتشرة مثل الفطر، حيث يضعن أولى خطواتهن في عالم الانحراف.
هل يعرف آباء وأولياء التلاميذ أن هناك اليوم من يعرض على أبنائهم وبناتهم أمام أبواب الإعداديات والثانويات كؤوس النبيذ بدرهم ونصف للكأس، وأقراص القرقوبي وقطع الكيكة المحشوة بالمعجون والكالة وأقراص الإكستازي.
طبعا الدولة مسؤولة عن تقصيرها في محاربة تفشي هذه الأمراض أمام عتبات المؤسسات التعليمية، لكن الآباء أيضا مسؤولون، ويجب أن يبذلوا مجهودا كبيرا لمراقبة أبنائهم وبناتهم، فالشارع ليس مكانا آمنا حتى نرسل إليه أبناءنا ونجلس مطمئنين في البيت بانتظار عودتهم، الشارع غابة متوحشة مليئة بالذئاب الآدمية، وأطفالنا بمثابة طرائد سهلة بالنسبة لهؤلاء.
الجميع مقتنع على المستوى الحكومي بأن التعليم الأساسي يجب أن يكون عصب الإصلاح التعليمي، لكن هل يجب أن نوقف العربة بأكملها من أجل إصلاح إحدى عجلاتها، سيكون ذلك كارثيا بكل المقاييس.
الحاصول أننا بهذه المؤشرات التي وصلنا إليها اليوم في ما يتعلق بالإجرام والعنف والإدمان أستطيع أن أقول “مزال ما شفتو والو”، لأن القادم أسوأ، بل أسوأ بكثير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى