شوف تشوف

شوف تشوف

كان يا مكان عيد الشغل

رحم الله تلك الأيام الخوالي التي كان يعتبر فيها يوم فاتح ماي عيدا حقيقيا للعمال، وعرسا نضاليا بامتياز، حين كان الجميع من دولة وأحزاب ونقابات وفعاليات مدنية يعدون العدة بقلق وشغف حقيقيين، من أجل تقديم الحصيلة وتقييم ما تم إنجازه خلال السنة المنصرمة، مع تبشير الطبقة العاملة بالمكاسب والزيادات في الأجور التي يوعدون بها تحسبا لكل انفلات أمني أو ردود فعل غاضبة، حين كانت استعراضات فاتح ماي تمزج بين المتعة والجدية وتزاوج بين الاحتفالية والنضالية، فيما كانت السلطات الأمنية تتحسب لمواجهة كل خروج عن النص، والتصدي لاحتمالات الانفلاتات الراديكالية، حينها كانت حناجر العمال والفلاحين والطلبة تصدح بشعارات قوية نابعة من القلب، يهتز لها وجدان الجماهير الشعبية المتراصة على جنبات الشوارع المؤدية إلى المقرات النقابية، فيسارع المواطنون تحت تأثير سحرها إلى الالتحاق بمسيراتها، فيما يسارع المخبرون إلى تدوينها في كراريسهم، وإيصالها عبر أجهزة اللاسلكي إلى مراكز التجميع والتحليل والمعالجة.
أما اليوم فإن احتفالات فاتح ماي أضحت باهتة، لا تكاد تستقطب غير بعض الفئات القليلة ممن ظلوا أوفياء لتلك الدكاكين النقابية التي يتم تفريخها عند كل انشقاق حزبي، والذين يحضرون على مضض، إما لحرج شخصي أو لمصلحة آنية أو لنوستالجيا نضالية لم يستطيعوا لها ردا، فيما لا تزال تلك الدكاكين تتنافس على عرض سلعتها البائرة بواسطة مكبرات للصوت مستعارة، وهي تقدم وعودها القديمة- الجديدة، عبر خطب مكرورة لزعماء متقاعدين ظلوا جاثمين على أنفاسها منذ تأسيسهم لها وتحفيظها باسمهم، والذين لا يجدون مع كل ذلك حرجا في التغني بالديمقراطية وبعزمهم مواصلة النضال لاستكمال مشاريعهم النضالية ومشاريع أبنائهم وأقربائهم.
كيف يمكن لفاتح ماي أن يحتفظ بطابعه العمالي وصدقه النضالي، وقد رأينا كيف أن الميلودي موخاريق، وريث نقابة بن الصديق، قد جاء في هيئة رجل أعمال بسيارة «الكاط كاط» محاطا بالحراس الشخصيين، على طريقة الدون كورليون، ليلتحق بفندق خمس نجوم ويتناول الفطور مع ضيوفه الكرام قبل تناول الكلمة أمام الكادحين، ليقصف بالمدفعية الثقيلة حكومتي بنكيران والعثماني على موقفهما من إصلاح أنظمة التقاعد، وعلى سياسة التقشف التي اعتمدتاها، وكل ذلك بحضور الحسين الوردي، وزير الصحة الشيوعي في الحكومة الإسلامي- ليبرالي- اشتراكية، وهو الوزير الذي تظاهر بأن الأمر لا يعنيه، رغم أنه هو شخصيا وحزبه يتحملان المسؤولية التضامنية في كل القرارات اللاشعبية للحكومة، فيما نسي موخاريق أو تناسى في معرض خطابه أن يخبر الجماهير الشعبية أن 27 مستشارا فقط صوتوا على تمرير قوانين التقاعد التي يتباكى عليها، في مواجهة 21 صوتوا ضده، وأن عدد الغائبين والمنسحبين لغاية في أنفسهم ممن ينتمون للمعارضة، كان كافيا لإسقاط تلك القوانين.
أما الاتحاد العام للشغالين، الذي يقوده مؤقتا بالوكالة الكافي الشراط، فقد أصابه الشلل التام بسبب التطاحن الواقع داخل حزب الاستقلال، فقرر مقاطعة الاحتفالات من أساسه بإيعاز من حميد شباط، لانشغال هذا الأخير حاليا بمعاركه الحزبية من أجل ضمان خروج آمن له ولعياله، وهو ما يمكن اعتباره رسالة استقالة ملغومة لنقابة الاتحاد العام للشغالين من مهامها الدستورية في تأطير المواطنين، وتخليها عن قواعدها وتركهم فريسة لليأس وربما للفوضى، في مقابل فرض عودة شباط لتولي زمام أمورها.
وبالنسبة للمتتبعين للمشهد الكنفدرالي، فقد كان لافتا غياب الزعيم الأبدي محمد نوبير الأموي بسبب المرض رغم التكتم على الخبر، وحضور الصفارات والطناجر كبديل عن الحناجر، فيما غاب عن نقابة الاتحاد الوطني للشغل الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، الذي لم يكن يجد كرئيس حكومة غضاضة في اعتلاء منصة العمال لتبرير قراراته القاسية ضدهم، وقد افتقده جمهوره بعدما سافر إلى الديار المقدسة ليستغفر الله من الذنوب التي ارتكبها في حقنا وحقهم، فيما غاب رئيس الحكومة الجديد عن المنصة على غير عادته، كما غاب صديقه يتيم الذي بدل أن يخطب في أتباعه عبر صفحة الفيسبوك هذه المرة، هل علينا عبر قنوات التلفزيون فرحا مزهوا ببذلته وبحقيبته الوزارية الجديدة ليقدم خطابا خاليا من أية بشارة خير، تاركا مسؤولية القيام بالتصريحات النقابية لجامع المناصب والمعتصم بها، الذي يجمع بين مهامه النقابية وبين منصب مدير ديوان رئيس الحكومة في الوقت نفسه.
لذلك فقد أصبحت مواكب العمال أمام تمييع المشهد النقابي، واختلاط الحابل بالنابل، وافتضاح الزعامات الكارطونية، أشبه بالمواكب الجنائزية، بعدما كانت مواكب نضال بطعم الفرح والتضحيات والأمل، فلا يكاد يسمع خلالها اليوم إلا حناجر أعضاء لجنة الشعارات عبر مكبرات الصوت، وهم يرددون شعارات مستعارة، أو أدعية تنطوي على نسبة عالية من المظلومية والتغابن، لا تزيد الناس إلا غما وهما وحزنا.
ومن المؤكد أن الطبيب النفسي ورئيس الحكومة الحالية لن يستطيع أن يعطينا تفسيرا صادقا لحالة الإحباط التي أصبحت عليها الساحة النقابية، دون أن يحمل المسؤولية للأحزاب السياسية التي تهيمن عليها، وتمنعها من النمو، وعلى رأسها حزبه وحركته الدعوية، كما لن يستطيع تشخيص مرض العزوف عن تظاهرات فاتح ماي، وما تنذر به من عزوف مرتقب عن صناديق الاقتراع في أية استحقاقات مقبلة، دون ربطها بتنامي الإحساس بانعدام الأمان لدى فئات واسعة من المواطنين، وفقدان الثقة في الفاعل السياسي والنقابي وفي العدالة، مما جعل من اللجوء إلى الانتحار أو التهديد به ظاهرة اجتماعية مستفحلة ومتكررة، ليس آخرها حالة «مي عيشة» التي تسلقت عمودا كهربائيا، دون أن تعرف أنها بفعلها العفوي استطاعت أن تعرف بمأساتها على أوسع نطاق، لدرجة أن كاتب الدولة «النجيب أبو الليف» جاء ينصحنا بأن ندير لها ظهورنا، وأن نلتفت لذكرى الإسراء والمعراج، قبل أن يفطن إلى زلته، ويعتذر مليار مرة، لذلك سيكون مفيدا لو أن سيادة رئيس الحكومة بدأ على الفور بجلسات استماع وعلاج لبعض وزرائه الذين تبدو عليهم حالات الاضطراب، حتى لا يزيدوا في إحباط «طاسيلتنا» بكلامهم الأجوف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى