الرئيسية

كل رمضان وطارق طليق

يونس وانعيمي
الرأي العام الفرنسي مشدود هذه الأيام للخرجة الإعلامية المكثفة matraquage، التي يقوم بإخراجها وإعدادها وتقمص الدور الرئيس فيها، المفكر الإسلامي المصري السويسري طارق رمضان.
بدأت الخرجة بطلب ترخيص قضائي لنشر كتاب عنوانه «واجب الحقيقة» (هناك ستة آلاف نسخة في الأكشاك ابتداء من 11 شتنبر، ويا للصدفة)، ثم إجراء حوار تلفزي في قناة «BFM» مع الصحافي المخضرم جون جاك بوردان، وتقديم العديد من التصريحات هنا وهناك، لا لشيء، سوى لإيجاد تبرير لإدانات الاغتصاب التي اتهم فيها المفكر، حتى ولو لبست هذه التبريرات لباس «قول الحقيقة» والتعبير الشاعري عن الإحساس بالذنب والاعتذار «الشجاع» أمام رأي عام صارم وغير مسامح لمثل هذه الإدانات.
في الواقع، هناك الكثير من الأحداث المتفرقة للاستغلال الجنسي والاغتصاب اقترفها رجال دين، من ديانات مختلفة، على أطفال ونساء بأشكال وتداعيات متفاوتة الخطورة (من التحرش العرضي الخفيف إلى الاستغلال الممنهج). البابا فرنسيس، أمين سر ورئيس الفاتيكان، يعمل حاليا، بجدية قصوى وسرية كبيرة، على حل ملفات فساد مالي وتحرش جنسي بأطفال كان أبطالها قساوسة ورجال دين، سواء بدولة الفاتيكان أو بكنائس ومعابد متفرقة في العالم.
ولأنه، في آخر المطاف، يبقى رجل الدين أو القس أو الداعية، أو الفقيه أو الراقي الشرعي… أناسا تلتصق بهم الذنوب، فإننا نطمئن على الأقل أنه «ليس في الوعاظ أملس»، وكم هو مهم جدا أن تكون لنا ترسانات قانونية حقوقية وضعية تجز بالمغتصبين المتورطين في سجون العدالة الإنسانية، حتى ولو كانوا يتبجحون بطهرانية إلهية غير قابلة للسقوط والوطء والخدش.
الفرق في قضية طارق رمضان، مع أية حالة عرضية مشابهة، هو الشخص المذنب نفسه، وسيناريوهات استغلاله الممنهج طويل الأمد لضحاياه من المريدات اليافعات والراشدات، وتبجحه الخطابي بجدوى «مشروعه الفكري والمجتمعي» الذي صنعت منها معلبات تضم منومات فكرية وظبها «هذا الكيميائي» لجيل كامل من مسلمين أوربيين شباب يعيشون «تشرذما هوياتيا» صارخا (ليس غريبا أن تستقطبهم أخطر الجماعات الإرهابية العابرة للقارات).
وبالتالي فطارق رمضان، ليس كمثل ذلك الفقيه الذي ضاقت به جوارحه وانفجر في داخله زهده بالحياة، فبدأ ينهش في عزلته لحم الأطفال والفتيات ليقضي وطره منهم. بل هو ذلك الخطيب «العالمي» الذي تراه في النهار يلعن العلمانية والفكر الوضعي وينبه أوربا باقترافها الجور ضد حقوق المسلمين ويدق ناقوس خطر العنصرية ضد المتحجبات «العفيفات»، وفي الليل، يتناول أقراصا منشطة جنسيا ويستدرج نساء (معجبات تحت تأثير أفيونه الديني) ليمارس عليهن أبشع أنواع العنف الجنسي والنفسي بوصمات وكدمات خطيرة.
ففي الزمن الذي بدأ رمضان استدراج شباب سويسرا، وخصوصا المنحدرين من أصول عربية وتخديرهم بخطاباته حول «اللائكية الفاشلة» وحول «الهوية الثالثة» والإسلام الأوربي العقلاني والروحي المنقذ من التيه الميتافيزيقي الذي تسببت فيه الليبرالية الأوربية المتوحشة، بدأ أيضا في استدراج مراهقات ويافعات سقطن تحت تأثيره (هناك 3 دعاوى مرفوعة عليه الآن من طرف القضاء السويسري حول اغتصاب قاصرات). فمغامراته لم تبدأ في سنة 2008، بل كانت فوارة وكامنة منذ ثمانينات القرن الماضي (حسب سجله القضائي المطروح اليوم أمام القضاء الفرنسي).
ولم تكن مغامراته الجنسية هي أوحش غابة يمتلكها هذا المفكر الإخواني، بل كان يضم إلى ممتلكاته حديقة خلفية تحوي مشروعا إيديولوجيا توسعيا، مستغلا الوهن والكسل المنهجي وغياب الدهاء الإعلامي عند المؤسسات التمثيلية للمسلمين بأوربا.
لكن مشروعه تلزمه مشروعية أكاديمية، لأن الأوربيين وخصوصا الشباب يثقون كثيرا في الجامعة ومحاضريها أكثر من ثقتهم في الكنائس وقساوستها. لذلك كان على طارق رمضان أن يلبس وزرة الأكاديمي وينمق كلماته ببهارات معرفية ومصطلحات أكاديمية هي نفسها المتداولة في صالونات الأنتلجنسيا الأوربية، ويبقى السلاح الأنجح هو لعب دور المسلم المتفتح المتحدث باسم الإسلام بلغة موليير وسبينوزا.
معركته للحصول على موطئ قدم في الجامعة بدأت عندما ضغط بشكل كبير ليصبح أستاذا لتاريخ الأفكار بأحد المعاهد بجنيف، وضغط ليقدم أطروحة جامعية حول تاريخ الأديان والتي ستخول له ممارسة مهنة «محاضر» بدون أن يكون أستاذا رسميا في أية جامعة.
ومن تم شرع في تنفيذ الخطة الذكية المتمثلة في ترويج فكر إسلامي حداثي متسامح مع الغرب، ضرب به عصفورين بحجر: استقطب به آلاف المترددين الماقتين للفكر الإسلامي المتطرف، واستقطب وسائل الإعلام الأوربية (وهو الذي يتقن الفرنسية والإنجليزية) التواقة لسماع خطيب مسلم بلحية عربية خفيفة، يتحدث بالفرنسية حول أبعاد المصالحة الحضارية بين الإسلام وأوربا. بل لم تمنعه سفسطته من الإقرار بوجود «إسلام أوربي ومسلمين أوربيين»، وربما اعتبره بعض المريدين التافهين «رسولا جديدا» بعث لأراضيهم، جاء ليمنحهم أخيرا الخلاص من التيه الروحي والهوياتي القاتم.
ولأنه تمكن من فك إحدى أهم شيفرات الولوج إلى الإعلام الغربي، وهي تغليف الخطاب الديني بالحداثة والتسامح الحضاري، توفق في استقطاب متتبعين وقراء ومريدين، وهو رأس المال الكافي لولوج منابر القنوات التلفزية. فتحول طارق رمضان بسرعة إلى نجم بلاطوهات السجالات التلفزية حول الإسلام بأوربا، وكان يحاضر بها «مشروعه الإيديولوجي» مستغلا المعارف «الضحلة» حول الإسلام، الذي تعانيه العديد من القنوات والصحافيين بفرنسا وغيرها. وبدهاء منقطع النظير، أقنع مثقفين «متسامحين منهجيا»، لأنهم تجاوزوا التسعين من عمرهم (لكن لهم مصداقية أكاديمية قوية)، لإعداد كتب مشتركة أهمها كتاب Au péril des Idées (عن خطر الأفكار) يحاكي فيه طارق رمضان «مونتيسكيو» عربي يلقن الأرثوذكسية الأوربية درسا لأنها فوتت «فهم إسلام عابر للحضارات ومقوم عابر لأوربا نفسها».
الحصاد كان مزدوجا عند طارق رمضان: مشروعية علمية لأفكاره أعطته نفاذية أكثر للرأي العام الشبابي، وتمويل قطري وفير (لأنه يتماشى مع أجندة توسعية اقتصاديا وفكريا) مكنه من مأسسة مشروعه في كامبريدج، عبر إحداث مركز بحثي استقطب أكثر الأقلام العربية والأوربية «سفسطة».
مشروع مماثل تم تأسيسه بالدوحة، بين عزمي بشارة وطارق رمضان، وهو عبارة عن مركز قومي للدراسات الحضارية والسياسية، ويعد ينبوعا معرفيا تنهل منه قنوات نافذة كقناة الجزيرة القطرية. هذا التوسع الإيديولوجي «المغلف أكاديميا» كان سيبلغ المغرب. وفعلا كان طارق رمضان يتردد على المغرب بدعوة سخية من طرف العديد من «المفكرين الإخوانيين»، سواء ناشطين بحزب العدالة والتنمية أو حركة الإصلاح والتوحيد. وفعلا بدأ حشد ثلة من شباب كبريات مؤسسات التعليم والتكوين وكلهم مشاريع مهندسين منخرطين في الحركة الإسلامية، لحضور محاضرات طارق رمضان بالرباط والدار البيضاء ومراكش، وأخذ نصيبهم من الجرعات المعرفية حول الاقتصاد وضرورة بنائه على قيم الإسلام.
هل سقط مشروع طارق رمضان لوحده بفعل عارض؟ هل تم إسقاطه؟ القضاء الفرنسي لا يتورط (إلا نادرا) في الطحن المترصد للمفكرين. والقرائن المدفوعة لإدانة المفكر كثيرة وجلها قوي. واعترافاته كانت مؤلمة لأفراد أسرته الصغيرة ومريديه، ومؤلمة لممولي مشروعه، ومؤلمة لإخواننا بالمغرب الذين كانوا يعتمدون عليه لتقوية قواعدهم من المهندسين والطلبة و«المتنورين». غريب أن تسقط اتباعا كل هذه النخلات.

مقالات ذات صلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى