شوف تشوف

الرئيسية

كيف تأسست جمعيات السهول والجبال والوديان؟

في مناسبة احتفالية استضافها القصر الملكي في فاس، سأل الحسن الثاني مطرب الملحون الحاج محمد بوزوبع، الذي ورث أسرار الحنجرة الذهبية عن والده، شيخ الملحون بامتياز، إن كان هذا النوع من الطرب يحظى باهتمام المجلس البلدي الذي كان يرأسه آنذاك بنسالم الكوهن. فأجاب بأن هذا الأخير يرد اسمه كرئيس شرفي للعديد من الجمعيات، بعضها يهتم بالموشحات الأندلسية والإبداعات المسرحية، وبعضها يختص بالأوراش التي كانت تندرج ضمن اختصاصات قطاع الشبيبة والرياضة.
أن يكون لرئيس المجلس البلدي منصب شرفي، على صعيد تنظيمات شبابية وفنية، فالأمر ينم عن بعض الاعتبار. غير أن الحساسيات الحزبية خلال تلك الفترة، لم تترك مجالا لغير تصنيفها في نطاق الاستقطاب المشروع. ومنذ تجربة التطوع إلى طريق الوحدة التي شارك في تشييدها شباب من مختلف المدن، بهدف تكريس خيار الوحدة، عبر الربط بين تاونات والحسيمة، مرورا بالقرى والبلدات الصغيرة، أبدى جيل المستقبل حماسا في التعبئة والاندماج في أوراش العمل الجمعوي. وتلاحقت تلك التجربة التي جمعت في صورة نادرة بين ولي العهد الأمير مولاي الحسن والزعيم التاريخي المهدي بن بركة، وهما يحفران بالفأس لغرس بذور أمل، سرعان ما تعرض للانهيار. تلاحقت عبر أوراش أخرى من قبيل غرس الغابات التي شكل مشروع «الديرو» ذروتها.
لاحت في الأفق فكرة تقارب اقتفاء أثر التجربة، من دون أن يكون لها نفس الإشعاع والتأثير، كونها ارتبطت بالتعبئة والتأطير ومناقشة قضايا وملفات سياسية واقتصادية، وأثمرت في غضون ذلك أول خطة لمناهضة الأمية وتعليم كبار السن دروسا في الكتابة والقراءة لفك رموز المحيط الأقرب إلى حياتهم.. عبر معرفة الأرقام وكتابة الأسماء والابتعاد ما أمكن عن التوقيع بالبصمات. فقد تغيرت النظرة إلى الشباب ومشاكلهم، مع أنها واحدة تعكس مناطق الظل في إخفاق مناهج التعليم وربطها بالتنمية، وتأهيل الموارد البشرية التي ينظر إليها كأهم استثمار لا ينبض معينه.
كانت البداية من تأسيس «جمعية الأطلس الكبير» في مراكش، التي حاولت الإنابة عن وزارة الشبيبة والرياضة، من خلال تنظيم تظاهرات فنية يغلب عليها طابع الشباب، لناحية استضافة مطربي الموجات الجديدة آنذاك. وانبثقت الفكرة من إيجاد إطار آخر غير المجالس البلدية والقطاع العام لرعاية أنشطة ثقافية ورياضية ذات طابع أكبر من النطاق المحلي.
التفت الحسن الثاني إلى محيطه، فرأى أن هناك مستشارين ووزراء مقربين ومسؤولين أمنيين وشخصيات مستقلة يمكن أن تعتلي الواجهة، على أساس أن يقترن نشاطها الجمعوي في شكل تنظيمات محلية تشمل كافة أرجاء البلاد. فقد انطلقت المبادرة من مراكش الاسم الذي كان يطلق على المغرب الأقصى، بحكم أدوارها التاريخية التي تبادلتها مع صنواتها كعواصم للمملكة عبر الحقب، وكان لابد أن تتوسع لتشمل مدنا أخرى.
صادف أن «اليونسكو» أبدت اهتماما بإدراج أمكنة ومعالم ضمن التراث الإنساني، واختارت مآثر تاريخية في مدينة فاس التي كان هجرها روادها ورأسمالها البشري والمادي إلى الدار البيضاء ومناطق أخرى خارج البلاد. وعبر زيارات متوالية لخبراء «اليونسكو»، لامست السلطة السياسية آنذاك غياب محاور غير رسمي، يلتقي وجهود «اليونسكو» في إعادة الاعتبار إلى مدينة المولى إدريس.
لم لا يتم تأسيس جمعية موازية تكون ذات إشعاع ثقافي تنافس «جمعية الأطلس الكبير»؟ ولم لا يتم اختيار شخصيات من أبناء المدينة ذوي نفوذ اقتصادي ومالي لرعاية مشروع بهذه الأهمية؟ تبلورت المشاورات عن تأسيس «جمعية فاس – سايس»، التي اهتمت بإحياء الموروث الثقافي ورعاية مهرجانات إبداعية.
لا تتغاير أسباب النزول كثيرا، وطالما اشتكى أهل الشمال من عدم إيلاء عناية أكبر بتنمية أقاليمهم، حتى أنهم كانوا يحسبون أعداد الوزراء المتحدرين من أصول شمالية، فلا يجدون غير أرقام ضئيلة. وجاء تأسيس «جمعية البحر الأبيض المتوسط» التي أسندت رئاستها إلى المنصوري بن علي الذي تدرج عبر مناصب وزارية، ليكون إطارا يعاود صياغة أسبقيات التنمية في تلك الأقاليم. وعلى شاكلتها رأت النور جمعية مماثلة في الجنوب حملت اسم «إيليغ» التي رعاها رجل الأعمال عبد الرحمن بوفتاس، الذي عرف بقربه إلى مراكز النفوذ السياسي والاقتصادي. حتى أن الملك الراحل الحسن الثاني قال يوما لدى تعيينه وزيرا للإسكان، إنه أحضر تاجرا سوسيا يعرف لغة المعاملات المالية في أدق تفاصيلها الكبيرة والصغيرة للنهوض بالقطاع. وانضمت إيليغ إلى قافلة الجمعيات الناشئة، بعد أن تم اختيار ابن وجدة، الوزير الأول الأسبق أحمد عصمان، لتولي رئاسة جمعية أنكاد. كما انبثقت من آسفي على الساحل الأطلسي جمعية بالأهداف نفسها، بعد أن كانت جمعيتا «رباط الفتح» و«أبي رقراق» قطعتا الأشواط في منافسة باقي التنظيمات.
هل كان المشروع ثقافيا بخلفيات سياسية؟ أم أنه اهتدى إلى منطلق جهوي لتفعيل أداء جمعيات كثيرا ما وصفت بأنها ولدت وفي أفواهها ملاعق من ذهب؟ في أي حال فإن ظهور هذه الجمعيات في فترة سياسية اتسمت بتجاذب الصراع ومظاهر الاحتقان، واجهت انتقادات شديدة، حيث كانت أوساط في المعارضة تصفها بأنها «جمعيات السهول والوديان والجبال». ربما كان العيب في الشكل وأسلوب الإخراج وحدود المسافة بين ما هو رسمي سلطوي وما هو شعبي. لكن الأهم أن المبادرة جاءت في فترة لم يكن فيها مفهوم المجتمع المدني قد تبلور إلى فضاء وقوى مؤثرة.
بعض الأفكار تتسم بالجاذبية وسبق الوقت، لكن إنزالها إلى حيز التنفيذ يفسد الرؤية.. أو هكذا على الأقل كان ينظر إلى التجربة في وقتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى