الرئيسية

لعونيات

شامة درشول
أخبرتني أمي أن علي الحضور للمنزل حتى أرتب تحضيرات حفل عقد قران قريبتها فاطمة التي تقيم معها منذ خمس سنوات. كان هذا أسوأ شيء يمكن أن يوكل لي أمره، لم تقتنع أمي يوما أني لست مثل أغلب نساء هذا البلد، أحلم بركوب «العمارية»، وارتداء القفاطين السبعة، والحيرة بين ارتداء «اللبسة الهندية»، أو «اللبسة الشلحة»، والهوس بـ«اللبسة الفاسية»، وركوب «الطيفور». لذلك عانيت وأنا أحاول إقناعها وأهلي يوم كنت أحضر لحفل زفافي أني لا أريد لا عمارية ولا طيفور، وأني سأرتدي قفطانا واحدا أدخل به، وآخر أخرج به. كان موقفا أثار الاستياء بين أفراد عائلتي، وحين قررت، أسبوعا قبل عقد قراني، عدم إكمال الزواج، وإلغاء كل التحضيرات، لم أخبرهم السبب، لم يكونوا يعرفون أنه منذ بدأ الخلاف بيني وبين من كنت سأقترن به على «لعونيات»، عرفت أنه ليس الرجل الذي يصلح لي زوجا.
أخبرت أمي أني سأتكلف بمصاريف الحفل، لكني لن أتكلف بالتحضير، أخبرتها، أيضا، أنه، يوم الحفل، سأكون مرتبطة بموعد، لذلك لن أحضر. أجابتني أمي: «وخا، على خاطرك». استغربت لهدوئها وتجاوبها، كنت أنتظر تلك القنبلة التي تلقيها وهي تبتسم لي ابتسامتها البريئة تلك، وتقول لي عبارتها الشهيرة: «بغيت نهضر معاك شي هضرا»، ولم يخب حدسي، قالت لي أمي، وهي تنهي المكالمة: «راه بغينا لعونيات»، فأجبتها فورا: «سوف أحضر».
«لعونيات»، في ذاكرتي كن فرقة من النسوة، يرتدين قفاطين بسيطة، يخضبن أيديهن بالحناء، ويزينّ شفاههن بالسواك، يكتحلن بكحل يحرصن على أن يكون «حار»، شعورهن غير مصففة، يعرفن أنه لا داعي لتصفيفها، وأنهن بعد لحظات سوف يقمن لأداء رقصة الحصان، يحررن في الرقصة كل تلك المشاعر التي قمعنها في دواخلهن، هذا ما كان يجول في خلدي وأنا أتابع رقصهن. في كل «تحييرة»، أشعر بأن صرخة تطلق، وفي كل هزة رأس أشعر بأنها إعلان شفاء، شفاء الروح مما خزنته بين أضلع الجسد. غضب وخوف وتوتر، وحزن وقلق، كل ما تعيشه النساء وما توارثنه، يحملنه إلى حيث الحفل، يتسامرن، يتضاحكن، يتمازحن وينتظرن لحظة الرقص لكي يكشفن حقيقة لا يمكن الإعلان عنها إلا في رقصة الحصان. نساء لم يعد البكاء والشكوى يشفيان جروحهن، فاخترنّ الرقص للتعافي من الألم. لذلك رأيت دوما أن العونيات لسن مجرد نساء «مارقات» كما ينظرن لهن، بل هن نساء ينشدن التحرر من آلامهن.
منذ ثماني سنوات، كنت أجلس في سيارتي بالقرب من الحي الذي نشأت فيه، أتحدث إلى الذي كان سيصبح زوجي، أخبره بتفاصيل حفل الزفاف، ثم قلت له إنه في منزلنا سوف نقيم ليلة الحناء للنساء فقط، وإننا سنستقدم «العونيات»، فوجدته يرفض أن أحضرهن. وحين استغربت لموقفه وتمسكت برغبتي في الاحتفال بحفل زفافي على طريقتي، وجدته يشترط علي إما أن ألغي العونيات، أو أن تحضر عائلته في حفل الزفاف دون ليلة الحناء، فاخترت أن ألغي «هاد لبيعة وشريا كاملة»، وأبلغت عائلتي أني أرفض إتمام هذا الزواج، وحين أصر هو ووالدته، وأهله على إتمامه، واعتبروا موقفي مجرد غضب عابر، قلت له في منتهى الهدوء: «اسمع، أنا لست أرفض عدم إتمام الزواج بك بسبب لعونيات، لكن الخلاف عليهن جعلني أنتبه إلى هوة ثقافية كبيرة بيننا لا تبشر بزواج مريح». أذكر أني قلت له يومها: «في عائلتك الأم من تحكم، أما في عائلتي فالأب من يحكم، وبعد رحيله انتقلت سلطة القرار إلى يد أخي، أنا مهما كنت شخصا متحررا، أظل متمسكة بالتقاليد التي كبرت عليها، في عائلتي الرجل من يقرر، والمرأة من تسير».
كان الرجل من عائلة سوسية متدينة، وكنت أنا من عائلة وزانية دكالية تقليدية، لم يكن الدين هو الذي يحكم سلوكنا في المنزل، بل كانت العادات هي مرجعنا، في احتفالاتنا داخل المنزل يمنع الاختلاط بالغرباء، وحتى حين يحضر أقاربنا نحرص على أن يجلس الرجال في غرفة، والنساء في غرفة أخرى. كبرت في عائلة حين يطرق غريب أو قريب باب المنزل لا يدخله إن لم يكن رجل فيه، لم نكن نفعل هذا لأنه «حرام» أو «حلال»، لم تكن هذه مرجعيتنا، كان «عيب» و«حشوما»، هو معيارنا، لكن كان دوما هناك متنفس للنساء في عائلتنا، «شعبانة» و«لكديدة»، وغيرهما من المناسبات كانت في الحقيقة حفلات تحرص نساؤنا على إقامتها من أجل الاحتفال بكسر كل تلك القيود التي حرصن على التقيد بها طوال السنة، حفلات إن خلت من «لعونيات»، فهناك دائما «عونية» في داخل كل امرأة منهن، يكفي مقص، وصحن معدني وبضعة كؤوس لتتشكل الفرقة سريعا، وتطلق النساء العنان لأنفسهن، يطلقن النكات، يتلفظن بكلام يحمل إيحاءات جنسية، حتى رقصهن لم يكن يخلو من إيحاءات جنسية تجعل كل نسوة الحفل يقهقهن عاليا. ذاكرة طفولتي تحتفظ بمشهد لهؤلاء النسوة وهن يخلطن التين المجفف مع الشاي بالأعشاب، يحاولن الحصول على «خمرة حلال»، يرتشفن منه وهن يضحكن، لم يكنّ يبحثن عن النشوة، بل كل ما رغبن فيه هو الاحتفال بإخراج الـ«عونية» القابعة داخلهن، وحالما ينتهي الحفل، يرتدين جلابيبهن ويغطين رؤوسهن استعدادا للعودة لأداء مهامهن. كن أمهات، جدات وزوجات، يتحملن مسؤولية رعاية النشء، وكان المجتمع يكافئهن بتلك الجلسات النسائية التي يحررن فيها أنفسهن من قيوده، وحالما ينتهين يودعن الـ«عونية» في دواخلهن على أمل اللقاء في مناسبة نسائية قريبة.
يوم قررت إلغاء زواجي، كنت في الحقيقة أرفض الاقتران برجل يريد قتل الـ«عونية» الكامنة في داخلي، وفي كل امرأة من نساء هذا المجتمع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى