الرأي

لماذا ننام؟ لماذا نحلم؟

بقلم: خالص جلبي

 

 

 

 

أرسل إلي أخ فاضل يقول: إنني أقرأ لك مقالاتك اليومية وكل يوم أجد نفسي مشتاقا لمعرفة ما سوف تكتبـه، ولقد قرأت لك عن النوم والدماغ اختتمت فيها مقالك بقولك إنك من النوع الذي يرى المنامات بكثرة، خلافا لمن حولك، ليس لأنهم لا يرون، بل لأنهم يستغرقون في النوم فتفوتهم هذه الرؤى المدهـشة التي تحفظها الذاكرة. هل لكم أن توضحوا لنا ذلك؟ وكيف تتم لنا المقدرة؟ إنني حين قرأت لك ذلك وإلى أن أقرأه لك مرة أخرى، سأكون كالعادة في شوق للاستزادة من علمكم.

وجوابي على الأخ أن النوم ليس على وتيرة واحدة، بمعنى أن الإنسان لا يدخل في النوم على نمط واحد لمدة ست أو سبع ساعات تزيد وتنقص، حسب كل واحد. بل هو مثل المسرحية على وقفات ومراحل. ومن ينام مثلا ست ساعات، ينام في الواقع أكثر من أربع إلى خمس نومات، يغط في كل واحدة مدة تتراوح بين سبعين إلى تسعين دقيقة، أي حوالي الساعة ونصف الساعة تزيد وتنقص كل مرة. وفي كل غطة ودورة يسبح الإنسان أيضا في مراحل، كل واحدة مقسمة بدورها إلى خمس مراحل، تكرر نفسها كل مرة. وهكذا ففي الليلة الواحدة ينام أحدنا أولا خمس مرات، ويستيقظ بعد كل مرحلة، أو يستغرق في المرحلة التي بعدها، وهي تختلف من شخص لآخر. وفي كل مرة من النوم المقطع الذي يستغرق حوالي ساعة ونصف الساعة ينزل فيها مثل الغاطسين في أعماق المحيط إلى الأسفل، إلى عمق اللاوعي، حيث يتم النزول إلى النوم العميق، في أربع مراحل، الأخيرة منها هي العميقة جدا، وهي تشبه الموت الذي تحدث عنه القرآن أنه يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى. والآية المذكورة في سورة «الزمر» رقم 42 تتحدث عن موت يومي من خلال المنام، ثم الانبعاث من جديد إلى الحياة، وهذا النزول يكون أيضا مختلفا بين النوم الأول والخامس؛ فهو ينزل بشكل حاد وسريع في النوم الأول، ليصبح أقل عمقا وأكثر سطحية في نوبات النوم التالية، حتى الخامسة أو السادسة كما ذكرنا من دورات النوم المتكررة.

وفي كل دورة يحدث شيء في غاية الإثارة، وهو ربما الذي اختلط على الأخ السائل، فمع كل صعود من رحلة الهبوط وعند السطح تماما كشف الأطباء عن ظاهرة حركة العينين السريعة المختصرة بكلمة ريم (Rapid eye Movement = REM)، فالعينان تلعبان وتدوران في المحاجر وكأنها الرادار الراصد وبشكل دوراني يمكن رصده للمتبع، ولكن لأننا ننام فلا نرى أنفسنا لا نعرف هذه الظاهرة الموجودة عند كل بني آدم من ذكر وأنثى صغيرا كان أم كبيرا، مع أن الأجفان مغلقة وكأن الروح تبحث عن شيء تراه، أو شخص تجتمع به، وكأنها نقله لعالم آخر، وفي هذه المرحلة يتم النوم، وفي كل دورة، ويستغرق في العادة كحد أعلى 20 دقيقة، وهذا يعني أن أحدنا يرى منامات كل يوم أكثر من ساعة، إذا جمعنا فترات النوم.

وهناك من أنماط الناس من يقول إنه يرى المنامات كثيرا، ومنهم من يقول لا أرى شيئا، والحق أنه يرى سوى أنه يغطس في الحلقة التي بعدها بدون استيقاظ فلا يتذكر. وهناك من حاول رصد مناماته وتسجيلها، وأنا شخصيا رصدت دفترا خاصا أكتب فيه المنامات التي أراها، وكانت زوجتي رحمها الله ليلى سعيد التي دفناها في ثلوج مونتريال تقول لي: خالص لا أرى أي منام، وهو كما ذكرنا، ولعلي أنا منهم من يستيقظ بعد كل دورة، ولذا فهو يتذكر هذه الرؤية المدهشة.

وهناك من يستغرق في الدورة التي بعدها فلا يتذكر من المنام شيئا كما أسلفنا ولو أننا استطعنا أن نوقظه، ونحن نراقبه أثناء حركات العينين السريعة لتذكر المنام، ولكن ليس كل من يوقظ في المنام يرتاح بعدها فمنهم من يطير نومه، وهي أصعب حالة حين يكون الإنسان لا نائما مرتاحا، ولا مستيقظا نشيطا، وهي حالة تكررت معي في حياتي ربما ثلاث مرات فهي مزعجة جدا، ولعل أفظع عذاب يمارس على الإنسان هو حرمانه من النوم، كما قرأنا عن ديكتاتور مصر عبد الناصر الذي سلط العذاب على حسن الهضيبي القاضي، بأن حرمه من النوم، فقال: كنت أنام دقائق معدودة حين تبديل الحرس فقط، وبهذا حافظت على عقلي من الجنون. والآن عبد الناصر، زعيم الهزيمة والكارثة في يونيو 1967م هو والهضيبي عند ربهم يتخاصمان. في القرآن آية معبرة (ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون). ويفصل في مثل هذه الحالة أن يستيقظ فيقرأ أو يتأمل أو يتهجد، أي أن يمارس عملا يكون فيه في حالة من حالتين، فطالما طار النوم فليكون استيقاظ إذن. أو إن استطاع أن يرجع ليغط في دورة جديدة من النوم الممتع. وأما لماذا يحدث النوم أصلا؟ فالعلماء لا يعرفون. وآخر الأبحاث أنها ضرورة للدماغ من أجل مسح المعلومات غير الهامة، لأن الدماغ يحفظ كل يوم حوالي 340 فلوبي ديسك. وأما لماذا يحلم الإنسان والقطط؟ فهو سر أعمق. والحلم يراه إبراهيم فيقص لابنه إسماعيل أنه رآه يذبحه، فقال له: فانظر ما ذا ترى؟ والحلم ليس للمؤمنين فقط، بل رآه ملك يوسف، وكان مفزعا من التهام البقر بعضها البعض حتى فسرها يوسف الصديق. وفي الحديث أن ابتداء الوحي كان في الرؤية الصادقة، واستمرت ستة أشهر لا يرى شيئا إلا جاء مثل فلق الصبح، ومنه يقول الحديث إن الرؤيا الصادقة هي جزء من 46 جزءا من النبوة، كونها استمرت 23 سنة. وحاليا يذكر ميشيو كاكو في كتابه «مستقبل الدماغ»، أن هناك أبحاثا جديدة تقوم بتصوير المنام في أفلام، ثم عرضها على صاحبها للمطابقة. ولكن الاستبصار كما يقول ميشيو كاكو في كتابه «فيزياء المستحيل» أن ثمة عشر استحالات، ثمان منها تم السيطرة عليها كما في التليباثي وهي خمس، وهناك ثلاث سوف يسيطر عليها العلم في القرون القادمات كما في كسر سرعة الضوء، ولكن تبقى اثنتان لا يمكن السيطرة عليهما وهما في حكم المستحيل المطلق، لأنهما تكسران قوانين الفيزياء المعروفة، وهما اثنتان الاستبصار، أي رؤية المستقبل، والآلات دائمة الحركة، لأن دورة الحياة وما فيها تخضع لقانون الأنثروبيا، وتختصر بنصف آية: كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. أو الآية الأخرى كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون.  

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى