شوف تشوف

الرأي

لم تطأ قدماه أرضا لا تفرح لتحرير أرض عربية

  لم يستأنس صحفي عربي برفقة الكبار والتطلع إلى المراقي، كما كان صاحب «الحوادث» سليم اللوزي، يحاور القادة ويصغي إلى الزعامات، ويهتدي ببوصلة المفكرين والمبدعين الكبار. قديما قيل: «لا يكون الظريف ظريفا، إلا إذا اجتمعت فيه أربع خصال هي الفصاحة والبلاغة والعفة والنزاهة».
كان المرء يُعرف بلسانه أو سلاحه، والشاطر من يجمع بينهما حتى أن الرأي تَقَدم على شجاعة الشجعان، ذلك أن نزاهة القول من ترفع الضمير، وفصاحة الرأي من صدقه أكان بليغا أو مباشرا أو منبها على غرار: إياك أعني واسمعي يا جارة. وليس مثل الصحافة قديمها وجديدها ما يكشف المكامن والبواطن التي لا تراها العين المجردة.
غير أن ظرافة الصحافة، على غير الإحالة إلى اللهجة العامية، استندت إلى الترفع، كما في سمو الأخلاق والمكارم. وعندما زار سليم اللوزي المغرب الذي كانت له في نفسه مكانة خاصة، نطق بأول طلب إلى مرافقه من المطار، أن تكون إقامته في أفخم فندق في العاصمة. أضاف بأن غبطته ستبلغ ذروتها، إن كانت الغرفة عرفت مرور شخصيات متنفذة.
لهذا احتفظت فنادق وساحات ومنتزهات، بل السجون والمعتقلات أيضا بتاريخ روادها وزبنائها، وصارت تلك الوقائع من العلامات الجاذبة للفضول. وقد يكون الصحفي سليم اللوزي رغب في زيارة شريط مؤتمرات عربية، من خلال غرف وقاعات الفنادق التي استضافتها، كما يفعل الروائيون ومراسلو الحروب حين يقتطعون الأمكنة والأحداث لاستخلاص العبر التي تشي بها.
لم يكن انقضى على انعقاد القمة العربية في الرباط غير أشهر قليلة، وسعد الصحفي اللوزي بإقامته في الفندق الذي احتضن وقائع ذلك المؤتمر. قال لمرافقه إن الأنباء التي تستحق المتابعة والرصد والتأمل تنساب على ألسنة الكبار. ولم يكن يضع نصب عينيه أن ينافس الصحف المحلية، بل أن تكون مجلته هي الثانية بمنطق الثراء الفكري والسياسي.
سبق اللوزي إلى اكتشاف منافي الصحافة العربية التي سيطلق عليها لاحقا «صحافة المهجر»، وكان اللبنانيون الذين ضاقت بهم ربوع بلد الأرز والتعايش والحرية تنبهوا قبل غيرهم إلى مزايا الإفلات من عيون الرقابة. وكما في أدب المهجر الذي استقر رواده في أمريكا اللاتينية وأصقاع أوروبية.. آوت عواصم غربية الهاربين من جحيم الاقتتال في الشوارع العربية.
مهما كانت مضاعفات المشهد الصحفي في المغرب خلال الفترة إياها، فإن الهجرة شملت السواعد والعقول، وهمت السياسيين المعارضين، من دون أن تصل إلى درجة إصدار جرائد ومجلات في الخارج، باستثناء منشورات بنكهة يسارية كان يتم تسريب أعداد منها إلى الداخل، عبر آليات التوزيع النضالي. وأرخت المضايقات والمحاكمات إلى العثور على نسخ من تلك المنشورات، وضعت في صكوك الاتهام، وكأن قراءتها محظورة بقوة قانون التعسف والقصاص من الفكر المتحرر.
كان اللوزي يشم رائحة الحرائق المنبعثة في أجزاء العالم العربي من بعيد. وكتب في خريف العام 1975 أن الصحوة العربية ستبدأ من أقصى غرب الامتداد الجغرافي، مشيرا إلى أن المغرب سيربح رهان وحدته في الصحراء، على رغم معاكسة رياح الجوار الشرقي. ثم امتنع عن تلبية دعوة إلى زيارة الجزائر قائلا إنه لا يضع قدمه على أرض لا يفرح حكامها بتحرير جزء من أراض عربية كانت محتلة.
لم يقل الصحفي الكبير سليم اللوزي يوما إنه تقدمي يناهض الرجعية. ولم يكن يؤمن بأن الصحافة أداة طيعة في تدبير الصراعات، إلا بالقدر الذي تُعنى فيه بنشر الحقائق والمعلومات والمعطيات، تاركة للقارئ اللبيب أن يختار أين يضع رأسه أو بندقيته أو أحلامه. وعندما لم يجرؤ أحد على انتقاد استبداد الرئيس السوري حافظ الأسد اعتبر معركته في مواجهة طغيانه وهيمنته قضية مبدئية.
غادر بيروت إلى لندن التي استقر بها. وحين جاءه نعي والدته لم يتمالك نفسه، لم يرتعد خوفا من انتقام حافظ الأسد. وغاب عنه أن العودة إلى بيروت لن تسعفه في حضور جنازة والدته. فقد التقطته سيارة مارقة من بوابة المطار، وذهبت به إلى حيث اللاعودة. بعد بضعة أيام عثر على جثته راعي غنم في منطقة مهجورة في البقاع. وتعرف المحققون على هويته، لأن يده اليمنى التي كان يكتب بها سلخ جلدها وقطعت ورمي بها إلى جانب جثته الباردة، كناية بهوية الفاعل الذي اعتقد أنه سيظل مجهولا إلى الأبد.
أفصح لي المستشار أحمد بن سودة، الذي كان يعرف اللوزي جيدا، وشاركه في إطلاق تفكهاته وطرائفه، أنه لم ير الحسن الثاني حزينا، كما في صباح اليوم الذي انتشر فيه خبر اغتيال الصحفي الكبير. يومها قال إن «الحوادث» إرث يجب صونه، لأنه مجلة العقل والاعتدال. ويوم حانت الفرصة اهتم المغرب بحفظ ذاكرة اللوزي. واقترح الكاتب السوري أحمد عسة ليكون رئيس تحرير «الحوادث» بعد أن امتلك المغرب بعض أسهمها. كان ذلك عربون وفاء لصحفي ناصر القضايا العادلة، وكان يحلو له أن يصف نفسه بأنه صحفي يميني يكتب إلى يسار اليسار العربي.
قبل عودته إلى بيروت ليكون شاهدا على جنازته وليس على الموت الذي غيب والدته فحسب، كتب اللوزي من وحي مقابلة مع مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية، أن سوريا قدرها أن تكون شريكا أساسيا في خطوات السلم والحرب في الشرق الأوسط. إن هي انحازت إلى السلم سيكون له شأن كبير، وإن هي اختارت الحرب لن تعرف المنطقة أي استقرار.. لكن حافظ الأسد فضل حربا من نوع آخر ضد الأشقاء اللبنانيين الذين لا يجارونه منطق الهيمنة التي فرضتها قوة الردع العربية.
لفت اللوزي وقتها إلى أن سوريا إن أخطأت الطريق ستنقلب عليها كل الحسابات. كان ذلك منذ حوالي أربعة عقود، لكن العرب، على حد تعبير خصومهم والمتعاطفين مع قضاياهم، لا يقرؤون، وإن قرأ بعضهم لا يستوعب ما يتعين هضمه في حينه، قبل فوات الأوان.
كانت «الحوادث» معلمة، وليس مثل الرواد من يصنع تاريخ المطبوعات التي تتدحرج حين يغيبون، إن لم يكن بفعل الفراغ، أقله أصبح اليوم بفعل ثورة الاتصالات التي لم تترك لسلاح الكلمة الرصينة أن يعلن عن وجوده، وسط ركام الصراخ الذي يغطي على كل شيء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى