الرأي

ماذا بعد كراهية الآداب؟

يصبح حديثنا عن أزمة الجامعة المغربية اختزاليا إذا تحدثنا عن مشكلة العطالة في صفوف الخريجين فقط. ويصبح كارثيا إذا جعلناها في خدمة الدورة الاقتصادية، لاسيما في مجتمع ريعي تسيطر أقلية محظوظة على كل ينابيع الثروة فيه. فهوية الجامعة منذ مؤسسيها الأوائل في تاريخ البشرية لم يكن بهذا الشكل الموجود عندنا، لأن هويتها تقوم على إشاعة التنوير العقلي بالأساس، أما تزويد المجتمع بالأطر التي تبني حضارته، فهو تحصيل حاصل. لكن أم كل الكوارث، هو أن يكون المسؤول عن الجامعات اليوم، ونقصد لحسن الداودي، من الذين لا يخجلون من إعلان احتقارهم للأدب والعلوم الإنسانية. والسؤال الآن هو: ما معنى أن يحتقر وزير، يفترض أنه أستاذ جامعي في أحد تخصصات العلوم الإنسانية هو الاقتصاد، أن يحتقر التخصصات الأدبية والقانونية؟
إنها إحدى أخطر الكوارث التي يعيشها المغرب اليوم، أن يدبر أموره أشخاص يحتقرون الفكر والفلسفة والأدب والعلوم الإنسانية، مع أن كل القيم التي يعيش بها وعليها إنسان اليوم، وتجعل منه متحضرا ومتمدنا قياسا لهمجية أسلافه، يرجع بالأساس للتطورات الهائلة التي حدثت في هذه المجالات. وإلا هل يمكن للعالم أن يعيش الرفاهية التي يعيشها الآن، بسبب التقنوقراط؟ فقد سمعنا وزير التعليم العالي يمجد التخصصات التقنية والعلمية ويحتقر الآداب. هذا طبيعي جدا وغير مفاجئ بالنسبة لمن يعرف هذا الرجل الذي لا يستقر على حال، وهو المهووس بموضة المنظمات الدولية التي تستهدف تحويل شباب العالم الثالث إلى أدوات طيعة في خدمة الرأسمال العالمي. لكنه في الوقت نفسه كارثي بكل المقاييس، أن نجد، في زمن يتم الحديث فيه عن الذكاءات المتعددة، مسؤول «قليل الذكاء» لدرجة أن يحتقر طلبة الآداب والقانون، غافلا عن حقيقة أن تكوين مهندس أو تقني لا يعني بالضرورة تكوين مواطن خلاق ومتعايش ومتسامح.. فأغلب متطرفي العالم اليوم، وأشدهم خطرا، هم من خريجي التخصصات التقنية والعلمية، أي من التخصصات التي لا يتم فيها تدريس الأدب والفلسفة والابستمولوجيا، وهي التخصصات التي تعلم الفكر النقدي، كما تعلم الجانب المشرق في الإنسانية. تعليم وتعلم المشترك الإنساني العابر للانتماءات الدينية والعرقية والمذهبية التي تزداد انغلاقا يوما عن يوم. فالذين يفجرون اليوم الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة وسط المدنيين العزل في كل العالم اليوم، إنما فعلوا ذلك لأن تقنيا أو مهندسا أعد لهم «القنبلة» التي سيفجرونها. ونحن لا نتحدث هنا عن الرعاع، صغار العقول الذين ينتحرون وهم يفجرونها، معتقدين أنهم بهذا ضمنوا «الحور العين».. إنما نتحدث أساسا عن كون التقنيات والعلوم ليست هي التي تضمن الحياة، وإنما أن يكون العقل الذي يستعملها محبا للحياة.
لا نريد اجترار الخطابات التبشيرية التي تتحدث عن أهمية الأدب والفكر والفلسفة بالنسبة للشباب، فهذا مما تكلم فيه كثيرون، وإنما عن الجائحة التي أصابت هذا البلد، والتي أصبح فيها سوق الشغل هاجسا لكل خطاب عن الجامعة، لدرجة أصبح فيها مسؤول، برتبة وزير، لا يملك الحياء ليحتقر الآداب. مع أن قراءة سريعة للمعطيات المتعلقة بالتنظيمات المتطرفة، سواء في أقصى اليمين أو اليسار، تجعلنا نستنتج أن من يدرس العلوم المسماة «دقيقة» دون فلسفة وفكر، هو مشروع أرتودوكسي، لن ينتظر منا بعد إنهاء تكوينه أن ننبه إلى ضرورة أن يستعمل علمه لصالح الإنسانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى