شوف تشوف

الرئيسيةخاص

«مارشي جليز».. فضيحة عقارية «لهفت» الملايير من المال العام بمراكش

مراكش: عزيز باطراح
«مارشي جليز».. «مارشي سانطرال» أو «المارشي».. كلها أسماء لمسمى واحد، إنه السوق المركزي للحي الفرنسي أو الأوروبي «جليز» بمراكش، والذي مضى على بنائه قرن من الزمن بالتمام والكمال، قبل هدمه وإعادة بنائه في حلة جديدة من الطراز العصري، وتحولت دكاكين بائعي الأسماك واللحوم الحمراء والخضروات والفواكه والورود إلى محلات تجارية تحمل ماركات عالمية.
كيف انتقل هذا السوق المركزي من ملكية المجلس الجماعي إلى شركة خاصة؟ من هي الجهات التي استفادت من «كعكة» بيع العقار؟ وكيف سمحت سلطة الوصاية بهذا التفويت المشبوه؟ أسئلة تكشف عنها «الأخبار» في هذا التحقيق الذي يرصد القصة الكاملة لـ «مارشي جليز».

قبل الهدم وإعادة البناء، مر السوق المركزي من مراحل عديدة، وتداولت مشاكله أربعة مجالس منتخبة، قدمت كلها حلولا سرعان ما اصطدمت برفض أطراف عديدة من سماسرة العقار الذين كان السوق يسيل لعابهم، وقد تمكنوا فعلا من وضع اليد عليه، قبل أن يفوتوه إلى إحدى كبريات الشركات، والتي حولته بدورها إلى علامة تجارية كبرى، حالت وضعيته الراقية اليوم من عودة أصحابه إليه، واضطر المسؤولون إلى وضع عقار آخر رهن إشارتهم في ملكية المجلس الجماعي، أي أن مشكلة عقار السوق المركزي، الذي تم التحايل والاستيلاء عليه في غفلة من المراكشيين، تم على حساب المال العام، بدل محاسبة الجهات التي أوصلت السوق المركزي إلى النفق المسدود وباعته في المزاد العلني.

«مارشي جليز» علامة من علامات الحي الأوروبي
«المارشي» الذي اقترن اسمه بحي «جليز» كان من بين أولى المرافق التي تم تشييدها بهذا الحي الأوروبي خلال سنة 1913، تاريخ بداية بناء هذا الحي من طرف المهندس المعماري الفرنسي «هنري بروست»، الذي كان على رأس فرقة من الفنيين والمهندسين الفرنسيين المعينة من طرف المقيم العام، الذي فوض لها عميلة الإشراف على بناء وتشييد الحي الأوروبي «جليز». وكلمة «جليز» أو «كليز» حسب بعض المصادر التاريخية، هي كلمة أمازيغية تعني الصخر الأسود، وهو الصخر الذي كان المراكشيون ينحتونه من جبل جليز، ويشيدون به منازلهم ورياضاتهم عبر قرون، وهو نفس الصخر الذي اعتمده الموحدون في بناء مسجد الكتية.
ظل «مارشي جليز» لعقود واحدا من أهم العلامات الرمزية للحي الأوروبي، إذ كان المصدر الأساسي لتزويد ساكنة هذا الحي، من الفرنسيين، والأسبان وغيرهم، الذين اتخذوه مقرا لسكناهم منذ فترة الاستعمال الفرنسي. إذ ظل لعقود هوالنقطة التجارية الأساسية التي كانت تزودهم بجميع أنواع اللحوم والخضروات والفواكه وغيرها من المواد الغذائية الأخرى، بالإَضافة إلى الورود، حيث كان مدخل السوق يحتضن جناحا خاصا بعرض الورود التي يقبل عليها المغاربة والأجانب، إذ كان النقطة الوحيدة بالمدنية الحمراء للتزود بالورود.

قرض بقيمة 500 مليون.. أول خطوة في اتجاه ضياع السوق
مباشرة بعد خروج الاستعمار الفرنسي، تحولت ملكية السوق إلى مدينة مراكش، وظلت المجالس المنتخبة تتحصل مداخيل الكراء من المستغلين، والذين لم يتجاوز عددهم 70 تاجرا، حسب وصولات الكراء الصادرة عن بلدية المنارة-جليز، خلال منتصف التسعينات من القرن الماضي.
وبالنظر إلى اهتراء بنية السوق، وتحول بعض أركانه إلى براريك تشوه المنظر العام، إضافة إلى كونه أصبح ملجأ المشردين والمتسكعين، وأصبح نقطة سوداء وسط هذا الحي الأوروبي، فقد قرر المجلس البلدي لمدينة مراكش، منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، خلال رئاسته من طرف الاستقلالي السابق والوزير الحالي «محمد الوفا»، هدمه وإعادة بنائه من جديد، الشيء الذي جعل المجلس البلدي يتسلم قرضا بقيمة 500 مليون سنتيم من البنك العقاري والسياحي من أجل إعداد دراسة وتشييد سوق مؤقت قرب مقر القيادة الجهوية للدرك الملكي، إلى حين إعادة بناء السوق المركزي وعودة التجار إلى محلاتهم.
شيد المجلس البلدي السوق المؤقت فوق العقار المحاذي لمقر الدرك الملكي، إلا أن عملية التشييد تمت دون التأكد من ملكية العقار، حيث ظهر أصحابه ومنعوا المجلس من استغلاله، الشيء الذي جعل عملية إعادة بناء السوق المركزي تتوقف عند أول خطوة، وبالتالي بقاء التجار في محلاتهم الأصلية، وضياع القرض البنكي.
توقف المجلس البلدي لعقود عن دفع أقساط القرض، ما جعل البنك يحجز على العقار (السوق المركزي)، قبل أن يتقرر بيعه في المزاد العلني خلال سنة 2001، وكانت تلك أولى الخطوات في اتجاه ضياع السوق من بين يدي المجلس البلدي لمراكش.
صادفت عملية بيع االسوق المركزي في المزاد العلني، تعيين محمد حصاد، وزير الداخلية الحالي، واليا على جهة مراكش تانسيفت الحوز، والذي تدخل من أجل وقف عملية البيع هذه، وفتح المجال للحوار من أجل إيجاد حل للمشكل.
دخل كل من مجلس بلدية المنارة-جليز، خلال رئاسته من طرف البرلماني الاستقلالي عبد اللطيف أبدوح، في مفاوضات مع البنك حول القرض الذي انتقل من 500 مليون سنتيم إلى أزيد من ستة ملايير من السنتيمات، باحتساب الفوائد والمتأخرات، قبل أن يتقرر تحديد الدين مع الفوائد في حدود مليارين من السنتيمات، وقد تمكن المجلس من دفعها، حسب ما سبق وأن صرح به عبد اللطيف أبدوح خلال محاكمته في القضية المعروفة بـ «كازينو السعدي»، إذ أن من بين المبررات التي تقدم بها أمام المحكمة من أجل التأكيد على أن عملية تفويت «الكازينو» كانت ضرورية، هي الضغط الذي مارسه البنك على المجلس حتى لا : « تحرم ساكنة المدينة من عقار يساوي الملايير في منطقة استراتيجية بحي جليز» حسب أبدوح دائما. ومباشرة بعد التفويت تمكن المجلس من دفع الديون، وبالتالي حرر عقار السوق المركزي. فهل هي عملية تحرير حقيقية، أم أن التحرير كان بهدف تفويت العقار إلى جهة بعينها؟

تحرير السوق من قبضة البنك ليصبح لقمة سائغة أمام المضاربين
ومباشرة بعد رفع اليد على العقار من طرف البنك، تم الاتفاق على أن تتولى مؤسسة «ليراك» سابقا إعادة بناء السوق، حيث انتظر التجار سنوات طويلة، قبل أن يتقرر ترحيلهم إلى السوق المؤقت قرب مقر القيادة الجهوية للدرك الملكي، في انتظار عودتهم إلى محلاتهم عند الانتهاء من البناء.
وافق التجار على الانتقال إلى هذه البناية التي لا تتوفر على أبسط شروط التجارة، ومع ذلك ظلوا لسنوات يمنون النفس بالعودة إلى السوق المركزي بعد الانتهاء من البناء، قبل أن يتسرب إليهم خبر مفزع، تمثل في أن مؤسسة «ليراك» التي أصبحت تحمل اسم «العمران»، عملت رفقة المجلس الجماعي على تفويت السوق المركزي لإحدى الشركات في ظروف غامضة، وأن إمكانية عودتهم إلى السوق أصبحت مستحيلة.
وبالعودة إلى العقد المبرم مع الشركة الجديدة، فقد تضمن أحد بنوده إعادة تجار السوق المركزي إلى محلاتهم، غير أن أصحاب الحل والعقد، دخلوا على الخط، بعدما أقنعتهم الشركة الجديدة بأن الطراز الذي بني عليه السوق، لا يسمح بفتح محلات تجارية لبيع اللحوم والخضروات وغيرها، ما جعل المسؤولين يبحثون عن حلول لتجار السوق المركزي، خاصة وأن السوق المؤقت الذي يشتغلون فيه، أصبحوا مطالبين بإخلائه بعد الضغوطات التي مارسها مالكوه.
ضغط مالكو العقار المنحدرين من أوساط سامية، وضغط الشركة المالكة لـ «بلاص بلازا»، خاصة وأن هذه الأخيرة اقتنت هذا العقارالذي يحتضن السوق المؤقت من أجل تهيئة فضاء «بلاص بلازا»، كلها عوامل جعلت مسؤولي المدينة يدخلون في سباق مع الزمن، من أجل ترحيل التجار من جديد، وقد وجدوا ضالتهم في العقار الذي يحتضن مقر التعاون الوطني بشارع الأمير مولاي رشيد بحي جليز، والذي تعود ملكيته للمجلس الجماعي.
استقر رأي المسؤولين على أن يتم ترحيل التعاون الوطني، خاصة أن البناية أصبحت مهددة بالانهيار، ما جعلهم يهدمونها ويقرروا تشييد سوق بديل فوقها لفائدة التجار السابقين للسوق المركزي، أي أن حل قضية هؤلاء التجار، تمت على حساب المال العام، دون الرجوع إلى مؤسسة «ليراك» ومحاسبتها على عدم تنفيذ العقد الذي أبرمت مع المجلس البلدي لمراكش والذي ينص على أن تقوم بتتبع الملف التقني لإعادة بناء السوق مقابل استفادتها من 4.5 بالمائة من القيمة الإجمالية لعملية بيع المكاتب والمحلات التجارية. وهكذا وقع مسؤولو المدينة شهادة وفاة عقار السوق المركزي، ووضعوا رعن إشارة التجار القدامى عقارا جماعيا حتى لا يهبوا للاحتجاج على الجهات التي لهفت السوق المركزي وتلك التي تواطأت مع المالك الجديد.
وفي غفلة من التجار الأصليين بالسوق المركزي، الذين لا يتجاوز عددهم 70 تاجرا، تحول الرقم إلى 102، قبل أن يصبح 150 مستفيدا من قرارات التعويض، وضمنهم أبناء منتخبين ومسؤولين بالمدينة، الشيء الذي يكشف عن تواطئ بعض الجهات في عملية تفويت السوق المركزي، الذي يعد ثروة مالية هامة بالنسبة للمجلس الجماعي، إضافة تفويت عقار جماعي آخر من أجل حل المشكل الذي تسبب فيه نفس المسؤولين عن تدبير شؤون المدينة، والذين أوصلوا قضية عقار السوق المركزي إلى النفق المسدود. هذا في الوقت الذي وقفت جميع الجهات المعنية بمراقبة المال العام موقف المتفرج دون أن تتدخل من أجل محاسبة المتسببين في هدر وتبديد المال العام.

رغم التفويت.. المجلس الجماعي يتكلف بمصاريف التهيئة
إهدار المال العام وخرق القانون لم يقتصر على تفويت السوق المركزي، بل بلغ حد دفع المجلس الجماعي نفقات أشغال تهيئة السوق، ضدا على بنود الاتفاقية التي تنص على أن أشغال التهيئة ستقوم بإنجازها مؤسسة العمران وليس المجلس الجماعي. وهو ما يعني أن ساكنة المدينة أو المجلس الجماعي خسر الملايير من أجل إعادة بناء السوق المركزي دون أن ينجح في إخراجه إلى حيز الوجود، ودفع الملايير نظير القرض الذي حصل عليه من بنك «القرض العقاري والسياحي»، ثم شيد سوقا مؤقتا سرعان ما أصبح مجبرا على إخلائه، قبل أن يضيع من بين يديه عقارا لا تملك أية مؤسسة عمومية أو خاصة نظيره، بل وساهم في إنجاز أشغال التهيئة لفائدة الشركة الجديدة التي انتقلت إليها ملكية العقار، كل هذا تم أمام أنظار المسؤولين والجهات المعنية بمراقبة المال العام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى