الرأي

محاكمات ومصائر وتسويات ودية

عاب أصدقاء على المغرب أنه بعث وزيرا أول لتمثيله في قمة عربية، وهو يجر أذيال مؤاخذات، بلغت إلى حد طلب حجب الثقة عن الحكومة. كان الرد أن العراك السياسي داخل البرلمان، أفضل من أن ينزل إلى الشارع. لكن مواطنا ليبيا اشتكى الوزير الأول عز الدين العراقي، بدعوى الإخلال بتعاقد تجاري.. وكانت تلك النقطة التي أفاضت الكأس.
إسقاط الحكومة، أي حكومة، عبر سلطة الرقابة البرلمانية يظل موقفا سياسيا يحتمل كل القراءات، على مقاس المرحلة والتطلعات. وإسقاط بعض رموزها جراء شبهات يكون له الأثر المحمود في ترسيخ مبادئ الثقة. وعندما بلغ إلى علم الملك الحسن الثاني، من مصادر أجنبية، أن بعض وزراء حكومته ضالعون في تلقي الرشاوى والعمولات، أنشأ محكمة العدل الخاصة لملاحقتهم قضائيا، على رغم أنه كان يقر بكفاءاتهم المهنية.. و»حتى زين ما خطاتو لولا».
ثم عاود النظر في أسلوب ومنهجية القصاص القضائي بالدفع في اتجاه تسوية الملفات التي تحوم حولها الشبهات، ولم تغادره قناعة الاحتكام إلى القضاء عند الضرورة. فقد تناهى إلى علمه ذات مرة أن عونا قضائيا توجه إلى مقر الوزارة الأولى للإبلاغ باستدعاء موجه إلى شخصية كبيرة. فما كان منه إلا أن أرغم المعني بالأمر على حل مشكلته بلا ضجة، لأن الأمر لم يعد منحصرا في شخصه، بل تعداه إلى المؤسسة التي يمثلها.
لست معنيا بتجميل الصورة، كما عاتبني قارئ كريم بانتقائية في حكايات قضائية، لا أزعم أنها تغيب دائما. ذلك أن رواية بعض الأحداث في سياقها لا تعني بالضرورة الحكم عليها. وكم من الحقائق تندثر لأنها تدفن في الصدور، أو أن البوح بها يخفت أمام سلطة التناسي، لا النسيان.
سمعت من وزير العدل مصطفى بلعربي العلوي أنه تلقى إشادة تعزز الثقة في القضاء، لأن حكما صدر بإلزام الوزير الأول بالوفاء في معاملات تجارية أخل فيها بشروط التعاقد. وقيل وقتها إن القضاء الذي رد الاعتبار للحكومة في دعواها الملتبسة ضد الزعيم النقابي نوبير الأموي، هو ذاته الذي أنصف تاجرا ليبيا في مواجهة الوزير الأول.
ما بين المحاكمات السياسية وتلك المرتبطة بمنازعات قضائية صرفة، بون شاسع. فقد سجل في رصيد عز الدين العراقي أنه زج بالأموي إلى السجن، كما سجل أيضا، وإن على استحياء، أن تاجرا أفحمه أمام القضاء نفسه، ولا يمكن لأحد أن يزيل شوائب ممارسات خاطئة عبر الاستحمام، كونها ليست غبارا يزيحه الماء الدافئ.
سواء أكانت المقارنة في محلها أو مجانبة للصواب، فإن سمعة الأشخاص من سمعة الدول. وما انفكت شخصيات سياسية في الديمقراطيات الغربية تتنحى عن السلطة، كلما أشارت إليها الأصابع بالتورط في فضائح سياسية أو مالية أو أخلاقية.
ثمة من ينقذ الحزب الذي ينتمي إليه، من خلال التضحية بمنصبه ووضعه الاعتباري، وثمة من يدافع عن سمعة بلاده، كي لا تتأثر بنزعات فردية، فيعاقب نفسه قبل أن يعاقبه الآخرون. وثمة من يتحمل مسؤولياته بشجاعة ويتوارى إلى الصفوف الخلفية. لكن الاستثناء يشذ عن القاعدة، وكان أحد رجال السلطة يحبذ اختيار من توجه إليهم السهام، بمبرر أنهم يفعلون ما يأتمرون به، بلا تفكير.. وما عسى الميت أن يفعل أمام غساله؟
ليس مثل الاستقالة ما يجنب الدول والمؤسسات مخاطر التلوث. أقله أن أشكال التورط تصبح محدودة الأثر في أشخاص وسلوكات، ولا تتجاوزها إلى صورة الدولة التي يأتي حماية القانون في مقدمة التزاماتها. وبصرف النظر عن مآل ما يعرف بالربيع العربي، فإن الأصوات التي ارتفعت في الشوارع كانت تقتنص وجوها وأسماء بعينها، ارتبطت في ذاكرة الرأي العام بشبهات الثروة والسلطة. فما كان يتهامس به الناس خلسة، صار يتناسل على كل الألسنة.
ولأن التاريخ يكرر نفسه في حالات عديدة، فإن فصول محاكمة الوزراء ومديري شركات في القطاع شبه العمومي والخاص، أعيد إنتاجها تحت شعار «التطهير». ومن الصدف أنه كما وقف مغاربة يتحدرون من أصول يهودية أمام محكمة العدل الخاصة لمواجهة تهم خطيرة، تعرض يهود آخرون إلى الفصل الجديد ضمن مسلسل التطهير، في التفاتة إلى عدم التمييز. وبعيدا عن إصدار الأحكام حول هذه القضية التي كانت مثار انتقادات كثيرة، فإن نتائجها لم تقتل الذئب ولم تفن الغنم.
المثير فيها أنها سبقت استحقاقات انتخابية، وكثيرا ما انبرى بعض المسؤولين المتنفذين في التلويح بملفات وشبهات، مع أنهم ليسوا قضاة ولا محققين. وكفى الله المؤمنين شر القتال حين ينقلب السحر على الساحر وتختلط المواقع. وإذا بمن كان يخيف الناس بسلطته خارج القانون، يستسلم أمام قفص الاتهام. وليس نشازا أن المحاكمات سياسية أو قضائية تطبع تاريخ الدول، إذ تحدد مفاصل توجهات ومشارب وصراعات. ومن لم تتم مباغتته بقوائم اتهامات يذعن عادة لتسويات ودية، تلافيا لأقوال الناس.
لكن مطربة شعبية تردد أن أقوال الناس «حيط بلا ساس»، والأكيد أنها تنصرف إلى البعد الأخلاقي الذي يخص الحسد أو التشفي أو النميمة المرتبطة بالفضول. وقديما قيل: لا دخان بدون نار. لذلك تصبح ملاحقة أقوال الناس أقرب إلى تيرمومتر لقياس درجات الحرارة. ومن رحم هذه الملاحقة ذات العيون والآذان، أن الكثير من الملفات كان يجري إقبارها عبر تسويات ودية. وكم من مرة خضعت إزاحة مسؤولين لقاعدة إن الله يمهل ولا يهمل.
ولا يبقى من الأطلال إلا زوارها، إن كانت خيرا يذكر أو شرا يتم تناسيه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى