الرئيسية

محمد عابد الجابري «العقل العربي بحاجة إلى إعادة الابتكار»

يونس وانعيمي
نظرا للأهمية البالغة لتخصيص حيز يقربنا من رجال ونساء ساهموا في «صناعة» الوعي بتاريخنا ونسج ما يميزنا حضارة وثقافة ومجتمعا عن الآخرين. لكن الشيء المبدع والصعب في نفس الآن، يتمثل في كيفية اختيار وتحديد أسماء بعينها، نظن أنه بالتطرق «لمساهماتها» سنقرب القارئ من «الذات المغربية» ونقربهم من سماتها وملامحها الفسيفسائية التي ساهم في تشكيلها والوعي بها (ربما) فلاسفة ومؤرخون وفنانون مغاربة.
الصعوبة الثانية تكمن في «بلاغة وبيان» أسماء هذه اللائحة وما لها من اتصال مع ما نصبو إليه..، لأن الحضارة ما هي سوى وعي مسترسل للذات الفردية بالحاضر المندمج في وعيها بالماضي من أجل حرية المستقبل. وهو وعي مركب يساهم فيه «وسطاء» هم مثقفون يدورون (على اختلاف مشاربهم) في فلك التفكير بالذات (من نحن؟) للخلاص من قيودها (كيف نبلغ الحرية؟). سنتطرق لأسماء نؤمن بأنها طبعت تاريخنا الثقافي وطبعت وعينا بذواتنا كمغاربة، ولكن ليست لنا من هذا غايات سردية بيوغرافية حصرية؛ لأننا نظن أن ما يهمنا أكثر ليس كيف عاشوا كأفراد، بل تهمنا فاعلياتهم كمفكرين وماذا أنتجوا، وما يمكن لنا أن نستشف من مغامراتهم في الإجابة عن سؤال (من نحن بالذات في التاريخ والفلسفة والأدب والفن والسياسة؟ وكيف لنا الخلاص نحو الحرية بمعانيها الكاملة؟).

من منطقة تاشرافت- أورثان بتخوم صحراء شرق فكيك (مدينة في أقصى شرق المغرب)، إلى القلب النابض لأسواق الدارالبيضاء، سينتقل الطفل الكتوم الهادئ محمد عابد الجابري للعيش نهائيا في كنف والده وبعيدا نهائيا عن أمه. فكيف لطفل في أربعينيات القرن الماضي أن يقوم بنفسه وبما أوتي من بصيص قوة بهذه الرجة والنقلة «الكوبرنيكية» كلها؟ كيف لطفل قروي أن يترك الأرض والأصل والأم والهوية الأولى، ليسافر إلى «مساحة زمكانية» تختزل الوطن كله والماضي كله والمستقبل وهواجسه في التحديث والعصرنة؟ فإذا عاش المفكر عادة أزمنة مختلفة في مخياله عبر الشخوص التي يعالجها في قراءاته، فإن محمد عابد الجابري كان في ذات الآن شخصية عاشت الاغتراب ومفكرا عالج الاغتراب في التراث والحضارة والحداثة.

التراث.. مكامن القوة والتعثر
كثيرة وغزيرة هي إسهامات محمد عابد الجابري. فهو مفكر مغربي ملتزم وواقعي، جمع بشكل ملفت للنظر ما بين أطروحاته في التربية والتعليم (باعتباره أستاذا مارسها مع الجيل الأول بعيد الاستقلال)، وبين عمله النضالي والسياسي في حزب الاتحاد الوطني ثم الاتحاد الاشتراكي من بعد، ثم جمع وكثف كل هذه التجربة المجتمعية الملتزمة لوضع إطارات نظرية شديدة العمق حول الفكر والتراث العربيين، لا لشيء إلا للكشف الإبستمولوجي العميق عن مواطن قوة هذا التراث الأصيلة ومكامن تعثره العقلاني والحداثي.
أول الأسئلة التي كانت تطرح كثيرا على الجابري، هو كيف يمكن لمفكر مثقف أن يمارس السياسة من دون سقوط الأولى في الثانية؟ وبصيغة أخرى، كيف يتسنى لفيلسوف يجمع بين الاشتغال المعرفي الفلسفي والعمل السياسي الحزبي أن يؤسس لمقاربات فيها قدر معقول من التجرد والموضوعية؟
وكان الجابري يجيب بأنه لا يجدر بالسياسة أن تؤطر المنهج والنسق الفلسفي للفكر (بل ربما العكس وبحذر شديد)، وإلا سنكون أمام مجسم واضح للإيديولوجيا. على الفكر أن يكون صارما منهجيا ويأخذ مسافات مع الواقع، حتى وإن كان مفيدا في الاستدلال (الواقعية المفرطة تقتل إمكانيات الافتراض)، ويأخذ مسافات من الإطارات الفكرية الجاهزة حتى ولو كانت مفيدة للاستنتاج (الجاهزية تمنعنا من الاجتهاد والفهم داخل سياقات مختلفة). الحل كان دوما، في نظر الجابري، هو بذل نفس الجهد المعرفي لمعرفة الذات من أبسط ملامحها إلى أعقد بنياتها التركيبية وجدانا وعقلا، وذلك ليس بالنكوص نحو أصولها والانبهار بها، ولا تشطيب ملامح تغيرها وتطورها واعتبار محاكاة الحضارات تقليدا معيبا، بل إيجاد وتطوير براعم التطور من دون إغفال المقومات التراثية التي تسمح بذلك. وهي بالضبط «أركيولوجيا العقل العربي» التي قرر الجابري بدء المجازفة فيها وحيدا تقريبا (كان سباقا في اختراق هذا المبحث).
ثاني الأسئلة التي كانت تطرح بقوة على عابد الجابري، هو ذلك المرتبط بمبررات اختياره للتراث موضوعا للبحث والتحليل الفلسفيين.
يعتبر محمد عابد الجابري من بين الباحثين العرب القلائل الذين كرسوا حياتهم الفكرية كلها للحفر في قضايا التراث؛ هذا الحفر أوصله إلى ملاحظة مؤداها أن الفكر العربي – من حيث تعامله مع التراث – قد سلك طريقين منذ القرن التاسع عشر: الأول الدعوة إلى سحب الماضي وإلغائه وتبني الحداثة كما هي، وهناك، في المقابل، الدعوة إلى فعل عكس ذلك. وهذان الاتجاهان، في رأي الفيلسوف المغربي، وصلا إلى طريق مسدود. الأصولية و«الحداثوية» كلاهما رغبة ومشروع ميؤوس منه في طمس الذات والهوية وسرقت المستقبل والحرية.
ففي نظر الجابري، أنه من غير الممكن صناعة بشر آخر بتراث آخر وبمفاهيم أخرى؛ فأوربا، مثلا، عندما استفادت من التجربة الحضارية العربية بكل جوانبها، أعادت بناءها من داخل أوربا نفسها (وهي عملية تأصيل وليس استنساخ). ويوضح الجابري الأمر قائلا: لقد استرجعوا ابن رشد ليس كما نعرفه نحن، بل كما صنعوه هم. ونفس الشيء يقال عن ابن سينا. إن الهوة التي تفصل الماضي والمستقبل الذي نريده لنعيش عالمنا، لا يمكن أن تردم إلا بجسور نبنيها من داخلنا بأدوات جديدة، وبالتفتح على كل ما يمكن أن يساعدنا.
وعن الذين يدعون إلى طي صفحة الماضي نهائيا، يقول لهم الجابري: إن «الصفحات المطوية» ستبقى في الكتاب، ويجب أن تبقى لتفتح من جديد، ولنصحح قراءتها من جديد.
وأمام هذا النوع من التعامل مع الماضي/التراث، حدد الجابري واجب الفكر في هذه المرحلة في التخلي عن منطق «إما.. وإما..»؛ الأمر الذي يقتضي – في رأيه- بذل جهد فكري وعملي من أجل التغلب الجدلي على مثل هذه الوضعية.

ما بعد النكبة
هذا التموقع المعرفي من التراث لم يكن يسيرا على الجابري، خصوصا عند نهاية الستينات وبداية السبعينات، حيث قبع الوعي العربي، (خصوصا بعد نكسة 1967)، في منزلتين متنافرتين تفسران النكبة العربية: منزلة تحيلها إلى «خروجنا عن النقل وإفراطنا في تقليد العقل الغربي مما أتلف بوصلتنا الهوياتية وأضعف حضارتنا، وبالتالي وجوب الرجوع الكامل للأصول الدينية التي كانت وراء قوة الحضارة الإسلامية في السابق». ومنزلة أخرى «تعزي تخلفنا إلى هذه الأصول البدوية التي تلتصق فينا كشوائب تقليدية تمنعنا من إقلاع فكري وصناعي وتقني، وبالتالي علينا مسح الطاولة من هذه الشوائب».
بتبصر ذلك المثقف الرزين، ولدرايته العميقة بمقومات الحضارة العربية وتاريخ نكساتها، وانخراطه الفكري في مشروع تحديث جدي وفعلي للمجتمع والحضارة العربية، كان للجابري موقف بيني مختلف: حذار من أن نسقط وقائع سياسية على أمور أعمق بكثير، ثم علينا أن نحذر من الاغتراب ونحن نرفض التطور والاغتراب ونحن نتنكر للهوية.
اختار الجابري أصعب المهام وهي إعادة قراءة وتحليل تراث عربي ضخم كميا، عسير من حيث تنوعه وفروعه، وخطير من حيث التدليسات والتزوير السياسي والسلطوي الذي تعرض له لأكثر من 10 قرون. كما لم يسلم من نقد لاذع صدر غالبا من طرف «رواد التحديث» والذين كان أغلبهم يرى في الجابري «مفكرا نكوصيا سيضيع وقتا كبيرا في إعادة إحياء الأموات، وكان الأجدر به، وهو ينتمي لليسار العربي، أن يستثمر وقته للحضارات الغربية المتطورة».
وكان الجابري يرد دوما بأنه لن تكون هناك نهضة عربية قويمة إذا لم «نشمر على أكتافنا» ونعود لمعرفة وقراءة وتحليل هذه الحضارة بكل مخرجاتها الفقهية والفلسفية والأدبية والسياسية، لكن الفرق يكمن في المنهج: لا تكفي العودة للتراث إلا بالمنهج العقلاني والنسق التاريخي المادي بدون قدسية، بحيث لا قداسة في التاريخ سوى للإنسان الثواق للحرية. وكان الجابري من أشد المؤمنين بأن كل نتاج حضاري كيفما كان، فإنه يتوفر في دواخله وميكانيزماته على أنساق حداثية وتحررية أصيلة، يكفي فقط سبرها ومعرفتها والبناء عليها للسماح لمنظومة الإنتاج الحضاري بالاستمرار.
وقد ساهمت إسهامات الجابري في المجال السياسي في توضيح فكره بدون تجريد كبير. كان واضحا في قضايا التعليم ومجازفات النظام السياسي في اللعب بمقوماته الحضارية، ومنتقدا لغياب «عقيدة الدولة التعليمية» والتي لن تتأتى له ما لم يعمق المعرفة بمقومات المغرب الحضارية والتراثية. ثم كانت له مواقف صارمة نحو «الحداثيين المفرطين» في اليسار المغربي والعربي عندما أجمعوا على نشاز الحركة السياسية الإسلامية والعمل على محاربتها وتقويضها. حيث نبه على أهمية ضمان حرية العمل السياسي لكل الحركات حتى المتطرفة منها، وكان سباقا للإيمان القوي بأن المؤسسات الديمقراطية التنوعية هي الكفيلة بترويض وتطوير كل بوادر الرجعية والتعصب في السياسة كما الدين. وكان من المدافعين عن تمركز السلطة الدينية سلطانيا في يد الملك.

الجابري والسلطة
قصة الجابري مع السلطة مفعمة بالدروس الأخلاقية، فلم يفته أن يشير إلى مساعي السلطة لاحتواء وتدجين المثقفين؛ حيث وقف عند بعض تجاربه الشخصية، وذكر أنه، في الوقت الذي كان المثقفون والشعراء العرب يتوافدون على المريد ويمدحون ويتوهون، كان موقفه الاعتذار عن عدم الذهاب! بل يذكر أنه مرة كتب إليه المسؤولون المنظمون لجائزة «صدام حسين» من بغداد (تمنح للأدباء والشعراء). وأخبروه بأنهم قد رشحوه لها، وطلبوا منه التوقيع على استمارة الترشيح، إلا أنه اعتذر؛ بحجة أن قانون الجائزة لا ينص بالتحديد على الدراسات الفلسفية، وبالتالي فليس من حقه الترشيح لها. فردوا عليه بأنهم سيضيفون إلى بند الدراسات الإنسانية عبارة الدراسات الفلسفية، لكن الجابري اعتذر مع ذلك!
واعتذر لدعوتين وجههما له الملك الراحل الحسن الثاني لينضم لأكاديمية المملكة. كما اعتذر عن حضور حفلات تكريم كثيرة وبشيكات دسمة.
عند مغادرته لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ركز الجابري كل وقته ليعتكف في حفرياته للتراث العربي والإسلامي ويصدر كتبا بقيت ليومنا هذا وستبقى لعقود إضافية مراجع راسخة ثمينة وقيمة، بل ومنفذا ضروريا لمعرفة التراث وفهمه فلسفيا.
حمل الجابري عددا من المشاريع الفكرية، صاحب صدورَها جدل ونقاش لم يتوقف حولها، فكانت «رباعية نقد العقل العربي«، التي تكونت من أربعة إصدارات رئيسية كانت باكورة أعمال الجابري، أعطى فيها للعقل دورا محوريا في إعادة قراءة العقل العربي.
تلك الإصدارات الأربعة هي: تكوين العقل العربي، وبنية العقل العربي، والعقل السياسي العربي والعقل الأخلاقي العربي، وقد أحدثت هزة في الأوساط الفكرية العربية. ودفعت هذه الرباعية كاتبا سورياً مثل جورج طرابيشي إلى إصدار كتاب ناقد لها سماه “نقد نقد العقل العربي”، يرد فيه على الجابري.
ينتقد الأستاذ فتحي التريكي بعض أفكار الدكتور محمد عابد الجابري، خصوصا فكرة وجود عقل عربي وآخر غربي، التي قال بها الجابري. كما خالف علي حرب الجابري في بعض القضايا الاصطلاحية، أهمها تفضيل علي حرب استخدام مصطلح الفكر على مصطلح العقل، لأن العقل واحد وإن اختلفت آلياته ومناهجه وتجلياته، كما يؤثره على مصطلح التراث.

في سطور
ولد محمد الجابري في شوال 1354 ه بسيدي لحسن بمدينة فجيج الواقعة في شرق المغرب على خط الحدود الذي أقامه الفرنسيون بين المغرب والجزائر، وتتألف فجيج من سبعة قصور – أي تجمعات سكنية – من بينها قلعة زناكة التي ولد فيها الجابري بعد أن انفصلت والدته عن والده، فنشأ نشأته الأولى عند أخواله وكان يلقى عناية فائقة من أهله سواء من جهة أبيه أو أمه.
كان جده لأمه يحرص على تلقينه بعض السور القصيرة من القرآن وبعض الأدعية، وما لبث أن ألحقه بالكتاب فتعلم القراءة والكتابة وحفظ ما يقرب من ثلث القرآن، وما إن أتم السابعة حتى انتقل لكتاب آخر، وتزوجت أمه من شيخ الكتاب فتلقى الجابري تعليمه على يد زوج والدته لفترة قصيرة، ثم ألحقه عمه بالمدرسة الفرنسية فقضى عامين بالمستوى الأول يدرس بالفرنسية.
بدت أمارات التفوق على الجابري حين برع في الحساب كما كان يجيد القراءة في كتاب التلاوة الفرنسية، وكان الانتساب للمدرسة الفرنسية ينطوي على نوع من العقوق للوطن والدين، فكان الآباء يخفون أبناءهم ولا يسمحون بتسجيلهم في هذه المدرسة إلا تحت ضغط السلطات الفرنسية.
أتيحت للجابري فرصة الالتقاء بالحاج محمد فرج، وهو من رجال السلفية النهضوية بالمغرب، الذين جمعوا بين الإصلاح الديني والكفاح الوطني والتحديث الاجتماعي والثقافي، وكان محمد فرج إماما بمسجد زناكة الجامع، فكان الجابري، وهو لا يتجاوز العاشرة، يواظب على حضور دروسه بعد صلاة العصر، وفي تلك الأثناء راودت شيخه فكرة إنشاء مدرسة وطنية حرة بفجيج، وبالفعل حصل على رخصة من وزارة المعارف لإنشاء مدرسة «النهضة المحمدية» كمدرسة وطنية لا تخضع للسلطات الفرنسية ولا تطبق برامجها، بل يشرف عليها رجال الحركة الوطنية، حيث جعلوا منها مدارس عصرية معربة لتصبح بديلا للتعليم الفرنسي بالمغرب، فالتحق الجابري بالمدرسة وتخرج فيها سنة 1368 ه / 1949 بعد أن حصل على الابتدائية.
حصل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة عام 1967 ثم دكتوراه الدولة في الفلسفة عام 1970 من كلية الآداب بالرباط. عمل معلما بالابتدائي (صف أول) ثم شغل أستاذا للفلسفة والفكر العربي الإسلامي في كلية الآداب بالرباط. كان عضواً بمجلس أمناء المؤسسة العربية للديمقراطية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى