شوف تشوف

الرأي

مدن وفضاءات بلا ألقاب

جاء في حكاية من بين الطرائف التي نسبت إلى الوزير مولاي أحمد العلوي، حقا أم باطلا، أنه أشرف إلى جانب رجال سلطة على اجتماع في مدينة سطات، يوم كان يحسب لفريق «النهيضة» الكروي ألف اعتبار. ووجه أحد المنتخبين سؤالا إلى الوزير، عبر فيه عن أمله في أن تصبح مدينة الشاوية عاصمة ثقافية واقتصادية، على غرار المدن ذات الصيت في هذا الباب.
سؤال مشروع، كما الأحلام والتطلعات. فما من مدينة إلا وتحلم ساكنتها بمكانة مرموقة لأحيائهم وسمعة مدينتهم، لأن ذلك يجلب المنافع. ولولا سمعة باريس كمدينة أنوار وثقافة وتقاليد، لما اشتدت المنافسات على عمودية بلديتها بين الزعامات الحزبية ذات الثقل البارز. فالإنسان ابن بيئته ومدينته، حتى أن أسماء الأنساب ارتبطت بالمدن الأكثر من التصاقها بالعوائل. ولم يستند التقسيم التعسفي بين الانتماءات، إلا لكون درجات التنمية والخدمات تفاوتت بين المجالات.
حين كان فيلسوف الشخصانية محمد عزيز الحبابي يفاخر بانتمائه إلى فاس، كان مفكر آخر اسمه أحمد السطاتي يضع أسس تدريس الفلسفة وعلومها في المناهج الدراسية، وفي الرياضة كما الإدارة وشؤون التدبير والتأهيل توزعت المعارف بين كل المدن والفضاءات في الحواضر والأرياف من دون استثناء، إذ لا فضل لأحد على الآخر إلا بما يكتنزه من معارف ومؤهلات علمية، ولو أنها لم تعد العيار الوحيد في عالم باتت تسيطر عليه الولاءات قبل الكفاءات.
أجاب مولاي أحمد على سؤال المنتخب، وفق الرواية التي يعتقد أنها لا تخلو من مبالغة ومن حبكة سياسية ملغومة، أنه أعجب بأسوار سطات ومركباتها التي بدأت تلوح للناظرين من استشراف المدخل الشمالي للمدينة. وزاد بأنه ليس من هواة ممارسة الغولف. إلا أن توفرها على ملعب فسيح سيكون له شأن كبير، ثم انتقل إلى موضوع آخر تلافيا لبعض الحساسيات. وقبل أن يعرض بيان رسمي لشخص وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري، ابن الشاوية، بنوع من «الهالة» التي ستشكل بداية النهاية، كان وزراء وشخصيات متنفذة يتجنبون المصارحة، كلما ذكر اسمه، إما خوفا أو اتقاء للشرور. وكان مولاي أحمد العلوي وحده يقدر على المصارحة، لكنه يختار لها الأسلوب المناسب. فقد تعلم من التجارب أن بعض الإحراج يتم تأويله بسواه من مقاصد القول الصريح.
ليست أسماء وعناوين الأشخاص ما يثير الحساسيات فقط. فالمدن وأنساب العوائل ومراكز النفوذ السياسي والاقتصادي لها مفعولها في هذا الجانب. وعندما أراد مولاي أحمد إقناع الفاسيين بضرورة الإسهام لإنقاذ مآثر مدينتهم من الاندثار والضياع، قال: «كيف يعقل أن يتغاضى أهل فاس عن وجود «فنادق» تأوي البشر والدواب في آن واحد. كان يشير بذلك إلى المآوي القديمة التي يتكدس فيها الناس، مع أن بعضها وضع ملاذات للبغال والحمير التي تنقل البضائع والسلع عبر الأزقة الضيقة التي تشق فضاء المدينة العتيقة. فقد أراد لكلماته الجارحة أن تبعث الغيرة في النفوس، وقديما قيل في تصوير تراجعها: اقتلوا من لا غيرة له. وهي هنا لا تشمل الأعراض والشرف، بل اعتزاز بالانتساب إلى المدينة والوطن، من دون تعصب أو إغراق في الشوفينية الضيقة التي تكرس الانغلاق ومحدودية الأفق.
عندما تبرع بعض الأثرياء لفائدة ترميم «سقايات» ومدارس عتيقة، علق الوزير إياه بأنهم لم يسددوا كلفة ما شربوه من مياه، ولا ما صرف على كهربة تلك المدارس التي كان طلابها يفترشون الحصير للنهل من العلم. وحرص في غضون ذلك على دعوتهم إلى حفل عشاء في حضور المدير العام لمنظمة اليونسكو المختار امبو للتداول في مزايا إنقاذ التراث العالمي لفاس. قال أيضا إن الموروث الثقافي يجب صونه وحمايته. ولم يفته أن يلوح بطريقته إلى أن هناك من تتملكه الغيرة من رصيد تلك المدينة.
في الحقيقة أن مبعث التوصيف يعود إلى حرمان مدن ومجالات من أن يكون لها نفس الأثر. فالمدن العتيقة التي توافرت لها الجامعات والمعاهد كان حظها أفضل من غيرها. لكن المعارف لم تكن يوما حكرا على فئات أو مجالات، فقد برزت كفاءات هائلة من قرى نائية ومراكز حضرية مغيبة، تأتت لها المثابرة في الاجتهاد والعمل. ولم يعد النفع العام حبيس تصنيفات جغرافية على مقاس دوائر التهميش. ولئن كانت المعارف وحدها لا تصنع ربيع المدن والفضاءات، فالمسألة ذات ارتباط ببنيات التفكير والإنجاز، وإلا لما استمرت حالات التهميش في تزايد مضطرد.
استفحلت الفوارق بين الفئات والجهات. وعندما بدأت نخب الهامش تفرض نفسها عبر التأهيل وأشكال المنافسة، انطبع اعتقاد بأن ما لا تستطيعه الإدارة المقيدة بمركزية متجاوزة في التدبير واكتشاف المجاهل السوداء، المتمثلة في الحرمان ونقص التجهيزات وغياب المرافق والخدمات، بدا أن الرهان على الديمقراطية المحلية يمكن أن يساعد في تدارك بعض ما فات. أقله على صعيد نقل المشاكل اللصيقة بالحياة اليومية للمواطنين إلى صدارة الاهتمام المحلي. وبرزت في غضون ذلك فكرة أن المنتخبين والوزراء في إمكانهم، كل واحد وفق المنطقة أو المدينة أو البلدة التي يتحدر منها، أن يقوموا بقليل من كثير في هذا المجال.
أترك تقويم التجربة للمعنيين بها وراصديها. وأواصل مع قصة الوزير مولاي أحمد واجتماع سطات. انفض اللقاء، وقبل أن يمتطي كل واحد سيارته، بحث الوزير عن المنتخب الذي سأله عن كيفية تطوير سطات. أخذه مولاي أحمد بيده وهمس في أذنه بإحدى الطرائف ومفادها أن وفدا من سكان سطات طلب أن تصبح مدينته عاصمة الشاوية. قال العلوي إن كل شيء ممكن عبر الإرادة والعمل، لكن لا تنس أن مدينة فاس بناها المولى إدريس. بينما سطات لها وزير اسمه إدريس حافية بلا ألقاب.
ويا ليت كل فرد اشتغل لفائدة حيه أو بلدته أو مدينته لتصبح ذات مكانة مرموقة، ومن الطرائف المتداولة ما يغني عن كثرة الكلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى