شوف تشوف

مرض نقص الثقة المكتسب

 

 

 

أكبر حزب «شياشي» في المغرب اليوم هو حزب «المشخارة»، أعضاؤه يعدون بالملايين ومقراته منتشرة في كل البيوت والمقاهي ومقرات العمل.

كل «متمشخر» يحمل في جيبه بطاقة انخراطه التي ليست سوى هاتفه الذكي المليء بالتطبيقات الغبية التي تعلمه كيف يصحو وكيف ينام وكيف يتقي شر العين والحسد حتى ولو كان لا يملك شيئا آخر يحسد عليه غير برودة دمه وأعصابه الجليدية التي لا تسري فيها الحرارة إلا في حالة واحدة، عندما يسرقون منه هاتفه الذكي.

هذا الحزب الذي تتعاظم صفوفه يوميا بمنخرطين جدد لديهم قناعة إيديولوجية واحدة وهي أن لا شيء يستحق التشجيع في هذا البلد، وشعارهم الأول والأخير هو «الله ينعلها بلاد»، ورياضتهم اليومية هي التمشخير من كل شيء وعلى كل شيء.

بمجرد ما يعلن البلد عن مشروع ضخم حتى تعلو ضحكات الشامتين، كما لو أن المغرب لا يستحق قطارات لائقة تحمل مواطنيه بسرعة نحو شؤونهم، ولا أقمارا اصطناعية تحرس حدوده، ولا مدنا حديثة تستجيب لشروط الكرامة والجمالية والرفاهية التي لدى الآخرين.

وبمجرد ما يتم الإعلان عن شيء جديد حتى تبدأ لغة التبخيس وجلسات الجلد الذاتي والمناحات الجماعية التي تكشف بالنهاية أننا شعب يعاني مرض نقصان الثقة في النفس المكتسب.

والخطير في هذا الحزب أنه يرسخ عقلية قطيعية لدى أعضائه، فبمجرد ما يتم تحديد هدف التمشخير ويصدر الرسم المركب الساخر الأول أو التعليق السلبي الأول حتى تتبعه التعليقات بالآلاف سائرة مثل قطيع نعاج وراء التعليق الأول كما لو كان قرآنا منزلا.

والعكس صحيح أيضا، فبمجرد ما يصدر تعليق إيجابي أو فيديو مركب لشخص أو حدث يراد تقديمه بشكل إيجابي حتى تتبعه التعليقات المهللة والمباركة والمشجعة.

هذا السلوك القطيعي للجالية الساكنة داخل مناطق واسعة من الفيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي يدفعنا إلى طرح سؤال مهم، من يتحكم في توجيه الرأي العام لدى أعضاء حزب «المشخارة» ؟ من يحدد الأهداف التي يجب قصفها وتلك التي يجب رفعها إلى عنان السماء ؟

هل ما يحدث اليوم عندما يتم استهداف بعض المسؤولين والوزراء بحملة ساخرة تصل حدود التجريح عمل هواة يقتلون الوقت في تركيب الصور والبحث عن التعاليق المناسبة وترويجها عبر تطبيق الواتساب والفيسبوك، أم هو عمل فريق محترف يحدد الأهداف بذكاء ويختار الصور بعناية والتعاليق السامة بمنتهى الدقة ؟

إنه لمن الغباء الاعتقاد بأن ما نتداوله على مدار الساعة، عن حسن نية ومن باب التشفي الفطري المتجذر في جينات الكائن المغربي، هو نتاج للصدفة أو الهواية.

الأغلبية الساحقة مما يتم تداوله بشأن أشخاص سياسيين ومسؤولين عموميين في شبكات التواصل الاجتماعي وراءه جيش افتراضي وفرق موت إلكترونية مدربة بشكل عال على تدمير الأهداف عبر جعلها موضوع سخرية وتندر شعبي.

لقد عشت التجربة بشكل شخصي واستطعت أن أعرف خطورة هذه الفرق التي عندما تأتيها الأوامر للقيام بالتصفية الرمزية لشخص ما لا تفوت أي فرصة أو وسيلة مهما كانت قذرة لتنفيذ هدفها.

الحمد لله منحتني العناية الإلهية مناعة ضد هؤلاء المجرمين الافتراضيين، وخرجت من معركة دامت خمس سنوات سالما معافى فيما انتهوا هم متقاتلين في ما بينهم بعدما مزقوا أنفسهم وأداروا بنادقهم في وجوه بعضهم البعض، لأن ما كان بينهم لم يكن لله، لذلك انقطع وانفصل، ولو كان كذلك لدام واتصل.

ولعل خطورة ما يقوم به حزب «المشخارة» الذي يلتقي مع أعضاء حزب «السداري» في الأهداف، هو أن يشغل الناس بعدد من التفاصيل مشوشا على الهدف الأسمى مانحا خصوم البلد فرصة مثالية لجعلنا موضوع سخرية وتندر.

وآخر مثال على ذلك شعار ملف ترشيح المغرب لتنظيم كأس العالم، فمجرد ما ظهر حتى ظهرت أولى التعليقات السلبية ثم تبعها سيل هادر من الهجومات، كما لو أن مجرد شعار هو الذي سيمنحنا الفوز بتنظيم المونديال، والحال أن هذا الشعار نفسه، الذي لم يكلف أكثر من 15000 درهما، مؤقت وسوف يتم العمل به إلى حين ظهور النتيجة، وإذا فاز المغرب بتنظيم المونديال، وسيفوز بإذن الله، سيكون هناك شعار آخر.

الناس منشغلون باللوغو الذي كلّف 15000 درهم وينسون 40 مليار دولار التي سيربحها المغرب في حالة فوزه بتنظيم المونديال.

هذا مجرد لوغو، والأساسي هو ملف الترشيح، والأهم هو الفوز بـ«صفقة» تنظيم المونديال لأن هذا الحدث هو الوحيد حاليا الذي يمكنه أن يغير المغرب بشكل نهائي ويضعه على سكة المستقبل مثلما حدث مع دول كثيرة نظمت المونديال وتغيرت أحوالها بشكل جذري.

النتيجة الآن بسبب الهجوم المبالغ فيه على شعار المونديال هي أن كبريات الجرائد الأمريكية استغلت هذه الهجمة للنيل من ملف ترشيح المغرب، وهذا طبيعي طالما أن أمريكا وكندا وضعا ملفا مشتركا وهما الوحيدان اللذان ينافسان المغرب على احتضان تنظيم المونديال.

والشيء نفسه لاحظناه في الهجوم على وزير التعليم الجديد بسبب انحنائه المبالغ فيه أمام الملك، نعم كان على السيد الوزير أن يسلم على الملك بما تقتضيه آداب البروتوكول لكن دون الزيادة في هذا البروتوكول بتلك الطريقة غير اللائقة.

لكن هل هذه الحركة، التي يمكن احتسابها على دهشة الداخل الجديد إلى القصر، ستصبح سببا في المطالبة بمحاسبة وإقالة وزير حتى قبل تسلمه لحقيبته ؟

حتى لا نكون دائما فاعلين لا مفعول بِنَا علينا أن نطرح دائما السؤال لمصلحة من ؟

من هو الحزب السياسي، أو الجناح السياسي داخله،  الذي يستفيد من نزع الجدية عن الترميم الحكومي الجزئي ؟

صحيح أن الرأي العام من حقه التعبير عن مواقفه، بالسخرية والضحك والتمشخير، فالسياسيون يخافون سخرية الشعب، لكن يجب أيضا على الشعب أن يكون حذرا حتى لا يتم استغلال ضحكه للضحك على ذقنه من طرف سياسيين يعتقدون أنفسهم أذكى من الجميع.

ولذلك فنحن عندما نقول هذا الكلام فليس بهدف الدفاع عن السياسيين والحزبيين والمسؤولين العموميين، ولكننا نقوله بهدف تنبيه الرأي العام لعدم الانقياد وراء الحملات القطيعية التي لا تظهر أهدافها الحقيقية إلا بعد فوات الأوان.

لقد كنت دائما أعتبر، كصحافي معني وليس كمدون هاو، أن أكبر عملية تشكيك في العمل السياسي وفي جدوى الانتخابات عرفها التاريخ السياسي المغربي كانت على يد الأحزاب السياسية نفسها، وخصوصا الأحزاب التي كانت في السابق تحتكر الأصل التجاري للمعارضة. ويجب أن يكون المرء أبله لكي لا يدرك أن هذه الأحزاب عندما انتقلت إلى ممارسة السلطة أبانت عن قدراتها «الدفينة» في رياضة القفز على الحواجز. هكذا تنكر زعماء هذه الأحزاب لكل الخطابات السياسية التي كانوا يرفعونها في السابق، وفشلوا فشلا ذريعا في إدارة الملفات التي أسندت إليهم.

شخصيا أعتقد أن المغاربة يئسوا من السياسة وأصبحوا أكثر ميلا إلى تقريع السياسيين مهما كانت أحزابهم لأنهم فهموا أن ما يرونه أمامهم ليس سياسة، وإنما سيرك سياسي يبعث على الضحك، لكنه ضحك كالبكاء.

المغاربة اليوم ليسوا هم مغاربة السبعينات أو الثمانينات، اليوم يتابع المغاربة عبر وسائل التواصل الاجتماعي انتخابات البلدان الديمقراطية ويرون الفرق الشاسع بين رجال السياسة عندنا ورجال السياسة عندهم. يتابعون المناقشات السياسية عالية المستوى في البرامج التلفزيونية ويتحسرون على برامجنا السياسية التي تأتي إليها نفس الوجوه التي تعودنا على رؤيتها قبل ثلاثين سنة لكي تردد الكلام الخشبي نفسه.

السياسة هي المحاسبة أولا وأخيرا، وعندما يظل وزير في الحكومة عشر سنوات كاملة دون أن يكون مجبرا على تقديم الحساب في الأخير، ثم يغادر مقر الحكومة وكأن لا شيء حصل، فهذا شيء لا يتسبب فقط في تيئيس المواطنين من السياسة وإنما في تيئيسهم من بلدهم أيضا.

نحن كصحافيين عندما نكتب عن فضائح بعض السياسيين وتجاوزات بعض الوزراء، ونقدم الدليل على ما نقول، ولا يتجرأ أحد على فتح تحقيق أو إرسال لجنة لتقصي الحقائق، أو إجبار المعنيين بالفضيحة على تقديم استقالتهم على أقل تقدير، فهذا كله يفرغ العمل السياسي من معناه الأساسي ويحوله إلى مجرد تمثيلية سخيفة يؤدي فيها الوزراء والمسؤولون دور الممثلين والمواطنون دور المتفرجين والصحافيون دور الكومبارس. هذه إذن ليست سياسة وإنما صورة كاريكاتورية رديئة للسياسة.

السياسة بالنهاية هي المحاسبة.

لقد يئس المواطنون المنسيون وراء الجبال من السياسة وما يأتي منها، وفهموا أن الحكومات المتعاقبة تعتبرهم مجرد أصوات انتخابية تحتاجها بين انتخابات وأخرى لملء صناديق اقتراعها، وبعدها تتركهم للعزلة والثلج والجوع. ماذا ستعني السياسة إذن بالنسبة إلى هؤلاء المنسيين على أطراف الخريطة إذا لم تكن هي شق طريق سالكة نحو المدن، وبناء قناطر فوق الوديان حتى لا يضطر السكان إلى عبورها بالحبال كما لو كانوا في الأدغال، وتشييد مستشفى صغير لإسعاف النساء الحوامل والمرضى، ومدرسة لتعليم الأطفال حروف الهجاء. هل السياسة هي أن يتسلموا بطاقاتهم الانتخابية ويذهبوا للتصويت على مرشح سيختفي في الرباط بمجرد ما سينجح ويتركهم وحيدين أمام عوامل التعرية ينقرضون ببطء ؟

هل السياسة هي أن يلطخوا أصابعهم بحبر مكاتب التصويت ويعودوا إلى قراهم مرتاحين من كونهم قاموا بواجبهم الوطني على أحسن وجه، حتى ولو أن هذا الوطن لم يقم بواجبه معهم قط ؟

العمل السياسي الحقيقي والانتخابات الحقيقية لا أحد يشكك فيها، بل إننا جميعا نطالب بها يوميا، لأنها المعبر الوحيد السالك لهذا الشعب نحو الديمقراطية. ما نحاول أن نتصدى له يوميا هو تمييع العمل السياسي وتسطيحه واستغباء المواطنين والكذب عليهم باسم السياسة، وأحيانا استعمال غضبهم وسخريتهم لتصفية حساباتهم السياسية الضيقة داخل الحكومة.

معركتنا إذن ليست ضد السياسة والانتخابات والسخرية السياسية وإنما ضد من يريد أن يستعمل السياسة والانتخابات والسخرية لمصالحه الخاصة ضدا على المصلحة العامة.

وكصحافيين مهمتهم الأولى والأخيرة هي إخبار الرأي العام وفتح عينيه على ما يقع، فإننا لن ندخر جهدا لكي نكون شرسين في هذه الحرب، سلاحنا الوحيد هو قلم الحبر وهدفنا أن تسترجع السياسة معناها النبيل، الذي هو الالتزام مع هذا الشعب.

ولكل الذين يختارون لنا المسؤولين الذين سيسيرون شؤوننا ندعوهم إلى تأمل هذه الجملة التي قالها «وارنر نيفيت»، فهي تنطوي على عمق سياسي ما أحوجنا إليه اليوم :

– «عندما تختار معاونيك يجب أن تراعي ثلاث خصال لدى المرشحين: الالتزام، الذكاء والحيوية. وإذا كانوا لا يتوفرون على الخصلة الأولى، فإن الخصلتين الثانيتين ستقتلان مشروعك».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى