الرأي

مروض بلا ثعبان

عاد الرجل حزينا من رحلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وقد دأب على عدم مغادرة بيته إلا ليرجع إليه ليلا، محملا بما يدخل الفرحة على الأبناء. عندما أسر لبعض جيرانه بوجهته القادمة، سخروا منه، إذ كيف يمكن لمروض ثعابين في ساحة جامع الفنا أن يطير إلى أمريكا، وهو لا يتوفر على جواز سفر؟
لا جواب لديه على السؤال، فقد قيل له إنه سيسافر بعيدا، ولم يعرف كيف ومتى إلا حين طلب منه أن يكون في موعد محدد، ذات ليلة، رفقة صندوقه الخشبي وأصدقائه الثعابين. من مراكش انتقل إلى الدار البيضاء، ومنها إلى نيويورك، من دون أن يعرف معنى للزمن، أو المسافة التي قطعها بصحبة أعضاء فرق فولكلورية وغنائية. فقد كانوا على متن الطائرة يتحدثون باللغة التي يجيدونها، ولم يكن ينقصهم غير إعداد كؤوس الشاي المنعنع.
حدثني الفكاهي محمد أبو الصواب عن تلك الرحلة، وقد كان مسؤولا عن تنظيم الفرق الفولكلورية التي شاركت في مهرجان فني استضافته نيويورك وولايات أمريكية أخرى، أن الرحلة تمت بجواز سفر جماعي بالنسبة لأعضاء الفرق الغنائية الشعبية، وأنه كان مكلفا بترتيبات إقامتهم في الفنادق بعد تسجيل أسمائهم لدى غرف الاستقبال، لأن معظمهم لا يعرفون القراءة والكتابة بالعربية، فبالأحرى الإنجليزية.
قال من باب سخرياته غير الجارحة إن أحد أعضاء فرقة شعبية احتج بدعوى أنه لا يمكن أن يقضي ليله في غرفة بلا سرير نوم. والسبب أنه دلف إلى مصعد بمساحة واسعة، وتخيله غرفة نوم.. لكنه أشاد بانضباط أعضاء الفرق الذين لم يغادروا مراكز إقامتهم إلا لتقديم العروض. وهاله أن نشرات أخبار تلفزيونية كانت تعرض لوجوه وأسماء مطلوبين إلى القضاء ارتكبوا جرائم قتل بمسدسات وبنادق.
الشاهد في أسباب نزول الحكاية أن من عادة الأمريكيين، كما يقال، أن يخرجوا مسدساتهم على طريقة أفلام «الويسترن» كلما راودهم الإحساس بمخاطر داهمة، صادرة من البشر أو الحجر، من الأرض أو السماء. فبعض ردود الأفعال اللاشعورية لا تستأذن الأوامر، خصوصا إذا تعلق الأمر بالمفهوم الفضفاض لمقولة الدفاع عن النفس. وقد وجد صاحبنا مروض الثعابين نفسه في حالة تناف، اقتضت واحدا من أمرين: إما حذف ثعبانه أو حذف حياته.
كانت قاعة العرض غاصة بالمتفرجين الأمريكيين والأجانب الذين اقتعدوا كراسيهم إلى طاولات العشاء، على إيقاع نغمات غريبة تطرق آذانهم للمرة الأولى، كانوا يتابعون العروض الفولكلورية الساحرة بشغف وإعجاب في فناء فندق فاخر.
انسابت أجواء منعشة وتدفقت أحاسيس فياضة. وصادف أن راقصا شعبيا يخفي لحيته وراء النقاب كي يبدو مثل امرأة، أبدع في رقصات كان يؤديها وعلى رأسه استقرت الصينية التي اعتلتها الكؤوس، من دون أن تميل أو تسقط. كان يتمدد على الأرض ويشرع في النهوض على إيقاع الطقطوقة الجبلية، يتمايل جسده ولا تتحرك الصينية المثبتة على الرأس.
لإضفاء طابع أكثر ألفة على المشهد الفني، يمد يده إلى إبريق الشاي يسكب منه حلوته ومذاقه، ويوزع الكؤوس على الحاضرين الذين يرتشفونها وعلامات التعجب والانبهار لا تفارقهم. من قال إن الفنون الشعبية لم تكن سباقة لكسر الجدار بين مؤديها والجمهور؟ ثم جاء الدور على مروض الثعابين.
أخذ مزماره بيده ونفخ فيه، مثل ساحر ينادي على مخلوقات أخرى للالتحاق بموكبه. يبدأ الصوت حزينا كأنما هو قادم من واد سحيق، ثم يتدرج صعودا، إذ ينحني على صندوقه من دون أن يلامسه. الأعناق مشرئبة ولا يدري أحد عمن ينادي ذلك المروض الذي اختار صداقاته من غير البشر.
يلمع الضوء في عينيه، ثم يطل ثعبان برأسه من وسط الصندوق الخشبي. يلتفت يمنة ويسرة، بحثا عن مصدر الصوت الذي يطربه. الثعبان لا يرى، لكنه يحس ويسمع، وعندما يستغرقه نداء المزمار الذي تعود عليه، يدرك أن المسالك آمنة، وأن في إمكانه أن يعلن عن وجوده، ثم حدثت جلبة وضوضاء غير متوقعة، انبطح معها الجمهور الذي كان يراقب المشهد في احتماء تلقائي وراء وتحت الطاولات التي انقلب بعضها.
تمت السيطرة على الموقف بعد برهة، وواصلت الفرق الفولكلورية أداءها الممتع، بعد أن اقتنع الجميع أن الأمر يتعلق بحادث عارض، لكن مروض الثعبان غلب عليه الحزن، حين عاد إلى بلاده وحيدا، تاركا وراءه ثعبانه الذي كان زاده في الحل والترحال. وبعض الأرزاق تأتي من حيث لا يدري أحد.
قيل له إن أرض الله واسعة، وإن الثعابين لا تخلو منها قفار. غير أنه تمسك بأن ثعبانه لا يشبه الآخرين، وما كل الثعابين من صنف واحد: بعضها يلدغ ويترك أثره إن لم يقتل، وبعضها لا يلدغ، وإن فعل لا يقتل، لأن أنيابه بلا سموم. فقد نزع منه مروضه مكامن قوته القاتلة، وأبقى عليه شبح ثعبان يخيف به البعض ويهدد آخرين، لكنه لم يعد يلدغ.. فقد أصبح ثعبانا بلا هوية.
ماذا حدث بالضبط حتى رجع المروض بلا ثعبان؟ في الحكاية أن حارس أمن أمريكي كان يتابع المشهد داخل القاعة، تصور أي شيء إلا أن يطل ثعبان برأسه، وخاله يتمدد في أي اتجاه، لذا أسرع إلى إخراج مسدسه وصوب نحو رأسه طلقة رصاص أردته في الحال. فقد نسي منظمو الحفل إشعار الحراس أن هناك ثعابين حقيقية، بلا سموم، ستؤثث المشهد الفولكلوري. ومن يومها لم يعد مروض الثعابين يسافر رفقة أصدقائه الجدد، إلا في حال حصوله على ضمانات بأن ثعابينه لن يمسها سوء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى