شوف تشوف

شوف تشوف

مفاتيح في لوحة القراءة

ما حدث في تونس والكويت وفرنسا، الجمعة الماضي، ليس سوى استجابة فورية ودموية للنفير الذي أطلقته «داعش» قبل أيام، والذي دعت فيه أنصارها إلى استغلال شهر رمضان لقتل أكثر ما يمكن من الكفار.
وهكذا تحول شهر رمضان مع «الدولة الإسلامية» من شهر للصيام والعبادة والقيام، إلى شهر لقطع الرؤوس وتفجير المساجد واصطياد السياح في الشواطئ بالرشاش.
علينا لفهم ما يجري في العالم اليوم استحضار مجموعة من المفاتيح التي تصلح كأدوات لفك شيفرة الوضع المعقد والخطير الذي أصبح يتجه نحوه العالم. فقد أصبحنا نعيش عالما أخطر من المعتاد، أكبر سلاح يمكن أن يحمي المرء فيه ليس هو الطائرات والدبابات وإنما المعلومة. والأهم هو التحليل الصحيح الذي يمكن أن نعطيها.
لماذا تونس إذن؟
تونس، المطوقة بالجزائر وليبيا التي تتحارب فيها أنظمة عربية كثيرة بأسلحة القذافي، تخوض منذ ثلاث سنوات جهودا كبيرة لإعادة بناء الدولة وأجهزتها الأمنية، ونجاح النموذج التونسي يشكل خطرا استراتيجيا على مجموعة الدول، منها القريبة كالجزائر، ومنها البعيدة نسبيا كدول الخليج العربي، ترى في تخطي تونس حقل الألغام وتأسيسها لديمقراطية عربية في المنطقة خطرا داهما على أنظمتها العتيقة والمبنية على الاستبداد بنوعيه الناعم والخشن.
ولتحطيم هذا النموذج التونسي، هناك حل سهل، وهو ضرب مكمن القوة في الاقتصاد التونسي، أي السياحة التي تشكل خمسة بالمائة من الناتج الداخلي الخام.
ومن هنا نفهم استهداف متحف «باردو» وقتل السياح الذين كانوا داخله، والهجوم على شاطئ محسوب على المنطقة الراقية في سوسة وتصفية العشرات من السياح بوابل من الرصاص.
والنتيجة هي أن كل الفنادق بتونس شهدت مغادرة جماعية للسياح الأجانب نحو بلدانهم، ولا نعتقد أن هناك سياحا سيغامرون بالقدوم إلى تونس بعد مشاهدتهم لكل تلك الدماء التي خلفها السياح المقتولون والجرحى فوق الرمال وفوق الشراشف والكنبات المفروشة على الشاطئ التونسي.
هناك ملاحظة أساسية في الهجوم الإرهابي على الشاطئ، وهي أن الأغلبية الساحقة من الضحايا بريطانيون، وليس بينهم فرنسي واحد.
ويأتي هذا الهجوم الدموي الذي تبنته «الدولة الإسلامية» بعد أسبوع من نشر موقع «ويكيليكس» لحزمة من الوثائق السرية الدبلوماسية السعودية، وهي الوثائق التي سببت إحراجا للنظام السعودي لم تجد معه السلطات سوى مناشدة المواطنين الإعراض عن قراءة ما جاء في تلك الوثائق.
جوليان أسانج، صاحب موقع «ويكيليكس»، الذي يدور في فلك روسيا ويعيش لاجئا في سفارة الإكوادور بلندن، يبحث عبر نشر تلك الوثائق الدبلوماسية السعودية، عن رد الصاع صاعين للأسرة الحاكمة في هذا البلد بسبب تخفيضها لأسعار البترول بطلب أمريكي من أجل إغراق الاقتصاد الروسي، وهو ما نتج عنه انخفاض سعر الروبل ودخول الاقتصاد الروسي، ومعه حليفه الجزائري، في منطقة زوابع تنذر باهتزازات خطيرة.
لذلك فاستهداف البريطانيين من طرف «داعش» له دلالة لا تخفى. فبريطانيا تؤدي ثمن مواقفها الميكيافيلية تجاه ما يحدث في الشرق الأوسط، وخصوصا ما يحدث في سوريا وليبيا.
ومن خلال ضربه في الكويت وتونس وفرنسا، عبر واحد من ذئابه المنفردة، يريد تنظيم «الدولة الإسلامية» أن يقول للجميع إنه قادر على الضرب في أي مكان يريد، وإن أساليبه المرعبة في القتل قابلة للتصدير؛ فلأول مرة ومنذ منع العمل بالمقصلة، يحدث أن يقطع رأس فرنسي فوق التراب الفرنسي ويعلق فوق سياج كما كان يحدث ما قبل الثورة الفرنسية.
ولعل ما حدث في فرنسا يدل على أن «داعش» أرادت أن تلقن النظام الفرنسي درسا بسبب انخراطه الكبير في دعم الاقتصاد التونسي ونظامه السياسي، وهو الدعم الذي كان مشروطا بتطبيق حزمة من القرارات الاحترازية، منها إغلاق حوالي ثمانين مسجدا بعد اتهامها بإيواء متطرفين.
وهو ما فهمته فرنسا جيدا عندما وافق البرلمان الفرنسي بالإجماع على اتفاقية التعاون القضائي بين باريس والرباط، رغم رفض الهيئة الاستشارية العليا الموافقة على الوثيقة.
علينا أن نتذكر بهذا الخصوص كيف أن المغرب اتخذ قرار تعليق العمل باتفاقية التعاون القضائي قبل أحداث «شارلي إبدو» بثمانية وأربعين ساعة، لأن الأجهزة المغربية توقعت حدوث عمل إرهابي فوق التراب الفرنسي وبلغت نظيرتها، لكن الفرنسيين لم يأخذوا مأخذ الجد التحذيرات المغربية، فكان المغرب مضطرا لتجميد الاتفاقية.
اليوم هناك قناعة لدى الفرنسيين بأن مصلحة فرنسا توجد في التعاون القضائي مع المغرب، لأن الحرب اليوم هي حرب معلومات أكثر من أي شيء آخر، ومن يملك المعلومة يملك السلطة.
ما حدث في فرنسا أيضا، بعد جز رأس المواطن الفرنسي من طرف ياسين الصالحي، يأتي مباشرة بعد اتهام باريس لواشنطن بالتنصت على الرؤساء الفرنسيين عن طريق جهاز «LA NSA»، وهي الفضيحة التي طلب بسببها فرانسوا هولاند رسميا بتوضيحات من الرئيس الأمريكي باراك أوباما.
وها نحن نرى كيف تراجع الاهتمام بهذه الفضيحة في وسائل الإعلام الفرنسية لصالح الاهتمام بحادث قطع رأس العامل المسلم لرأس مشغله بمدينة ليون ومحاولته نسف مصنع الكيماويات المملوك لشركة أمريكية.
أعتقد أن الرسائل التي أراد منفذو هذا الهجوم الدموي الثلاثي (الذي حدث الجمعة الماضي) إيصالها لا تخرج عن رغبتهم في إشعار العالم بأنهم قادرون على الضرب في أي مكان وأي وقت يشاؤون، كما يمكن استنتاج شيء إضافي من خلال طريقة إخراج قتل السياح على الشاطئ بتونس، على شاكلة ما قام به سنة 2011 النرويجي أندريس بريفيك الذي صفى على شاطئ جزيرة أوتايا العشرات من الطلبة، وهو أن تنظيم «الدولة الإسلامية» أعطى لأنصاره الحرية في اختيار الإخراج المناسب لجرائمهم.
ولعله ليس مصادفة أن ينشر التنظيم أشرطة جديدة يعرض فيها آخر ابتكاراته واجتهاداته في طرق القتل، إغراقا وتفخيخا وتفجيرا، في ما يشبه دعوة لأتباع التنظيم للاجتهاد بدورهم، وهو ما قام به الطالب التونسي الذي تنكر في زي سائح وأخفى رشاشا في مظلة شمسية قبل أن يكشف القناع عن وجهه وينفذ جريمته.
وعندما نقارن بين ما وقع في تونس والكويت وليون الفرنسية، وبين الأشرطة المنشورة أسبوعا قبل اليوم، نستنتج أن الأشرطة كانت تحمل رسائل مشفرة.
فالقتل بالإغراق في مسبح لديه علاقة بالقتل على الشاطئ، فالماء حاضر في المشهدين معا.
وعندما نقارن بين مشهد القتل بالتفخيخ وما وقع في مسجد الكويت، ذي الأغلبية الشيعية، نستنتج أن وسيلة القتل واحدة وهي التفخيخ والتفجير.
أما ما وقع في ليون للمشغل الفرنسي، الذي قطع رأسه المسمى ياسين الصالحي، فهو التوقيع الأكثر شهرة للتنظيم الذي عرف بقطع الرؤوس أكثر من أي شيء آخر. والرسالة التي حاول جزء من الإعلام الفرنسي ترويجها هي أن المسلم الذي قام بقطع رأس مشغله الفرنسي معروف في حيه بكونه مواطنا عاديا جدا، مما يعني أن المسلمين يمكن أن يظهروا لكم عاديين ثم فجأة يتحولون إلى إرهابيين ويقطعون رؤوسكم ويأخذوا معها «سيلفي» يرسلونه للبغدادي.
هذا يعني أن الأشرطة التي تصورها وتنشرها «داعش» ليست على سبيل التباهي والتفاخر الدموي، بل يمكن أن تكون صندوق رسائل لحمل التوجيهات والأوامر للأتباع في كل مناطق العالم.
وما موقع المغرب في كل هذا؟
علينا أن لا ننسى أنه قبل أربعة أيام من الجمعة السوداء، التي اهتزت فيها تونس والكويت وفرنسا، علق أحدهم لافتة سوداء في شاطئ تغازوت السياحي بأكادير يدعو فيها السياح إلى عدم ارتداء «البيكيني». وقبل ذلك بيومين تم اعتقال فتاتين ومتابعتهما في إنزكان بسبب ارتدائهما للتنورة.
مساء الجمعة، في الوقت الذي كانت فيه قنوات العالم بأسره تنقل ما حدث في تونس والكويت وفرنسا، كنت جالسا أحتسي قهوتي في أحد مقاهي محج الرياض بالرباط، فإذا بي ألمح أربعة حراس خاصين يحيطون جماعة من الأطفال، فانتبهت فإذا بي أرى ولي العهد الأمير مولاي الحسن يتجول مع أصدقائه ويتبادل معهم الحديث ضاحكا.
قلت في نفسي إن المغرب ربما هو البلد الوحيد في المنطقة الذي يستطيع أن يسير فيه ولي للعهد في الشارع العام وسط الناس بأمن وسلام.
هذا الأمن هو ما يجب أن نحافظ عليه جميعا لأنه رأسمالنا الحقيقي. لذلك فالدولة مطالبة بعدم ترك مهامها في حفظ الأمن والسهر على احترام القانون لأفراد طائشين ومتشددين يريدون فرض طرق لبسهم ومأكلهم ومشربهم على المغاربة والسياح الأجانب.
إذا تم التساهل مع مثل هذه التصرفات الطائشة، فغدا سنسمع أن أحدهم نزل إلى أحد الشواطئ وقرر أن يطبق شرع «الدولة الإسلامية» بيده في عباد الله.
عندها سنقول وداعا للسياحة، وستصبح كل تلك الفنادق التي استثمرنا فيها مليارات الدراهم قاعا صفصفا، مثلما يحدث في تونس الآن، وهو ما سيصنع بهجة حكام الجزائر.
وتلك قصة أخرى سنرويها غدا بحول الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى