الرأي

ممارسة التدريس(4 /10)

صحة الأستاذ
تحدثنا في مقال سابق عن صوت الأستاذ كأداة تستهلك من صحته، لكن على مدى المسار المهني هناك أجهزة كثيرة أخرى من جسم الممارس للتدريس تستهلك و تستنفذ بالتدريج، و ربما دون إدراك مناسب منه.
فحواس كالبصر و السمع و الشم تأخذ طريقها للضعف التدريجي و الاستعمال المفرط، كما أن أمراضا أخرى معروفة لدى أسرة التعليم مرتبطة بالوقوف الطويل أو الجلوس الطويل.

أما الجهاز العصبي فهو تحت ضغط التوتر و القلق و الحزن و الحسرة و الحيرة و الفرح و الاندفاع و التخوف و الإرهاق و غيرها من العوامل اليومية التي يقع تحت طائلتها الممارس الحيّ للتدريس.
إن ممارسة التدريس تأخذ عقودا من عمر صاحبها و قد يدخلها في زهرة شبابه و صحته لا يأبه لشيء و قد لا ينتبه لما أوضحناه أعلاه. و هناك وصية مألوفة تقول: ” وفّر شيئا من الجهد و الصحة لتلاميذ الأربعين و تلاميذ الخمسين و تلاميذ الستين و الباقي للتقاعد “.
فالمسيرة طويلة و استحضار ما ذكرناه سابقا مهم للتعامل مع الصحة و الجسد بقصد و اتزان و حكمة، دون الاندفاع الحماسي المتهور و دون التقاعس عن أداة أمانة المهنة و تكاليفها و الله الموفّق.

مقالات ذات صلة

بين الاهتمام و اللامبالاة
يعلق بذهن الممارس للتدريس عموما صنفان من التلاميذ: المشاغب و المتفوّق، و لا يبقى للخجول أو الكسول أو ما شابههما أثر بعد مضيّ السنوات إلا فيما ندر أو لوجود علّة أخرى تبقيه في الذاكرة حاضرا. و هنا أثناء الممارسة للتدريس يعطي اهتماما لهذين الصنفين بل قد يأخذان منه وقتا كبيرا دون الانتباه للإهمال الذي يطال الأصناف الأخرى من التلاميذ و هذا غالبا يقع دون قصد.
و قد يولّد هذا التصرف عُقَدا كثيرة لبعض هؤلاء التلاميذ، كما أن كثرة الاهتمام تولّد إحساسا غير متوازن عند الآخرين و قد يشعر بعضهم بالاحتقار و الدونية و التهميش و الآخرون بالتعالي و التكبر، و هما خصلتان ذميمتان في مسيرة التعلم.
لقد علّمتنا السيرة النبوية أن طريقة تعامل النبي صلى الله عليه و سلم مع أصحابه كانت تجعل كل واحد منهم يظن أنه أعز عند النبي صلى الله عليه و سلم من الآخرين، و هذه حكمة نبوية غالية علينا التأسّي بها و محاولة مقاربتها.
فالتوازن في التعامل و التعاطي مع التلاميذ في الشرح و الاهتمام و إسداء النصيحة و الإشراك في الحصة و مراجعة المُنجَز من التمارين يعطي للجميع انطباعا بالإنتماء للقسم و للمادة و لو كان المستوى ضعيف أو هيأة التلميذ لا تشجع على ذلك و هذه طريقة المحترف للمهنة القادر على التجرد و التحرر من الدوافع الداخلية التي تنحاز لطرف دون الآخر دون قصد سيّئ أو دون شعور بها.
قد تمر سنوات من التدريس و لا يتمّ الانتباه لهذه النقطة رغم الجهد المبذول و العطاء الغزير في العمل لكنّ هناك من لا يستطيع البوح أو الحديث عما يشعر به و ربما عوامل السن و المراهقة و التغير المتسارع يجعل تأويل تلك الامور يأخذ أبعادا متشعبة معقدة صعبة الحل.

أذى المسار
قد يتعرّض الممارس للتدريس على مدى مساره المهني لأذى متنوع و من أطراف متعدّدة:
* فهناك الأذى المرتبط بالجحود و نكران المعروف الذي قد يصادفه من بعض أنواع التلاميذ بعد مرور سنوات أو حتى في السنة الدراسية، و كذا من بعض أولياء الأمور.
* و هناك الأذى الذي يطال أسرة التعليم كلها عبر الحملات الإعلامية التي تشنّ كلّ حين و حين، و التي تصبّ في النيل من شرف المهنة و المنتسبين لها. و هناك الأذى المترتّب عن بعض قرارات و تدابير المتحكّمين في التعليم و التي تسيئ إلى المنظومة التربوية.
* و هناك الأذى القريب من زملاء المادة أو المؤسسة أو إدارييها و هو أشد لأنه من الأقربين.
* و هناك أذى الظلم المترتب عن هضم الحقوق أو التماطل فيها، من ترقية أو انتقال أو تقاعد أو توزيع حصص أو غيرها. كما لا ننسى أذى المكانة الاجتماعية التي تتآكل كل حين بسبب كلّ فشل يزداد في حصيلة التعليم.
كل هذه الأمور ممكنة، و قد تجتمع كلها عند الكثيرين، و هي تتطلب صبراً و تصبراً كبيرين و طاقة تحمل كبرى خاصة عند الممارس الحيّ للمهنة حتى لا يتأثر عطاؤه و لا فعاليته بها، فالإنسان ضعيف و قدرة التجرد محدودة، لكنّ توقّعها يعطي وقايةً أفضل و استعداداً أكبر للتحمل، كما أنّ إخلاص العمل لله تعالى يعطي راحة إيمانية شاملة تداوي كل الجراح الناتجة عن أنواع الأذى التي ذكرناها أو التي أغفلناها.
فهناك من يعتبر أن الممارس المحترف هو الذي يستوي عنده الذمّ و المدح و لا يؤثران فيه إلا بقدر استجلاء الأخطاء و الاستفادة من المزايا.
إن ممارسة التدريس على بصيرة من هذه التفاصيل يسهّل العملية و إلا فإن المزاج سيتعكر مرّات و مرّات، و تساؤلات محورية ستطرح عند كل أذى: لماذا أنا هنا ؟ لماذا أمارس هذه المهنة ؟ كيف أبذل كل هذا المجهود و ألاقي هذا الأذى أو هذا الجحود أو …؟
فالتحصين ضد هذه الخواطر مفيد للصحة الجسمية و للتوازن النفسي و الوجداني و لبناء علاقة سليمة مع المحيط القريب و البعيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى