دين و فكر

يوم انتصرت على القايد

عمر  العمري

اكتشفت أن «قطب» ما هو إلا حلقة صغيرة ضمن تاريخ «الإخوان المسلمين» بمصر،
وأن مبتدأ هذه الحلقات هو «حسن البنا».. فمن هو هذا الرجل؟؟؟
أعجبت بهذا الشخص إلى درجة الافتتان.. فرحت بحركة «الإخوان المسلمين».. قرأت كثيرا عن هذا الشخص حتى جعلته في مصاف الأولياء والصالحين.. بواسطته حفظت كل الوقائع والأحداث التي شهدتها مصر منذ ميلاد حركته سنة 1928 إلى مقتل السادات بداية ثمانينات القرن الماضي..
حدث مرة أني وجدت صورة كبيرة للبنا على واجهة إحدى المجلات الإسلامية.. قطعت الصورة بعناية لا مثيل لها.. ألصقتها بإطار خشبي، ثم علقتها عند مدخل «البراكة».. رجل ذو لحية سوداء.. يضع طربوشا أحمر على رأسه.. يبدو على ملامحه الوقار والسكينة.. لا أنسى نظراته البريئة.. كأنه يشفق على حال هذه الأمة الضائعة.. سألتني الوالدة:
ـ شكون هاد بولحية؟؟
ـ إنه الإمام حسن البنا رحمه الله..
ـ ومن هذا «البنا»؟؟
ـ إنه هو الرجل الذي أوجد كل هذه «اللحى» التي ترينها في الكاريان؟؟
ـ وهو الذي قال لك بأن ترخي لحيتك هذه (كنت أطلقت لحية كثة في هذه الفترة).. ضحكت ملء فمي.. ثم أجبتها وأنا لم أنته من الضحك:
ـ الرسول الكريم هو من أمرنا بذلك.. أما «البنا»، فإنه استشهد منذ زمن بعيد.. قتله ملك مصر.. لكنه ترك لنا «ذرية» صالحة ستخلصنا من الظلم.. لقد أنبت «زريعته» أيضا في الكاريان.. ستنمو وتكبر إن شاء الله.. وستؤتي أكلها بعد حين..
ـ أين هذه «الزريعة»؟؟؟
لم تفهم المسكينة أي شيء مما قلت.. صغرت أمامي كثيرا حتى أني لم أعد أراها (سامحيني أمي أني استصغرت شأنك في لحظة من لحظات الطيش «الإسلامي»)..
يا للأسف نلت جزائي على هذا الغرور فورا.. فلم أكد أنهي حديثي مع الوالدة حتى طرق «شقيفة» الباب.. ناديت بكل قوتي:
ـ شكون؟؟
ـ المقدم.. خرجت إليه هذه المرة.. وجدته متسمرا على يسار الباب.. بدا لي مثل القزم لشدة قصره وبدانته..
ـ ماذا تريد؟
ـ «القايد» يستدعيك حالا؟
ـ واش «القايد» مَعَنْدُو شغل غير أنا..
أجبته بكل ثقة في النفس إلى درجة أنه تراجع إلى الوراء خوفا مني.. ثم أدبر مسرعا.. وتبعته أيضا..
لم أشعر بالخوف هذه المرة من «القيادة».. جلست بهدوء تام.. و«المخزني» ذاته ينظر إلي من بعيد.. تجاهلته.. ثم قال لي بكل أدب راسما ابتسامة غير بريئة على وجهه:
ـ تفضل «القايد» في انتظارك..
دخلت بخطى ثابتة وحثيثة إلى مكتب رجل السلطة.. وجدته هو نفسه الذي استدعاني في المرة الفائتة.. نظر إلي ثم عبس وقال:
ـ لقد تماديت في ضلالك.. لم تعد تخاف من أحد في هذه البلاد.. فبلغت بك الجرأة أن تعلق صورة «الخميني» في بيتكم.. لم أستطع أن أتمالك نفسي أمامه، فأظهرت ابتسامة تنم عن استهزاء ملحوظ.. ثم رفعت صوتي في حضرته:
ـ ماذا تقول.. أعلق «الخميني» في دارنا.. هذا هراء وافتراء.. من هذا المجرم الذي أنبأك بهذا؟؟
ـ إنه الفقيه «البودالي»..
ـ وهل «البودالي» (ولد الحرام) يسكن معنا في الدار.. أريد مواجهته الآن..
طلب مني «القايد» أن أنتظر بالخارح ونادى على «المخزني».. ولم تمر لحظات قليلة حتى رأيت «البودالي» يلج إلى القيادة مسرعا.. انتظرت مدة غير قصيرة حتى أرسل رجل «المخزن» في طلبي.. وما إن أقبلت عليهما حتى صرخ «البودالي» في وجهي:
ـ ما تَحْشَمش.. تنكر بأنك تعلق «الخميني» في داركم!!
ـ أعرف «الخميني» جيدا.. لكني لست على ملَّتِه ولا من أتباعه.. ولا يمكن أن أعلق صورته في بيتنا..
ـ ومن هو ذاك الرجل ذو اللحية الطويلة والطربوش الأحمر.. (لا أدري إلى يومنا هذا من أخبر القائد بصورة البنا.. هل يكون أبو أيمن.. لا علم لي..).
وقع «البودالي» في الفخ.. أجبته ببرودة نفس:
ـ إنه الإمام المشهور «حسن البنا»..
صمت الفقيه.. لكن «القايد» أبان عن جهل فظيع، فتسرع قائلا:
ـ وأين يسكن هذا «البنا»؟؟
وجدت نفسي هذه المرة مجبرا على الضحك بصوت مرتفع.. توجهت إلى رجل السلطة:
ـ إنه استشهد سنة 1949.. وقتله الإنجليز بمعاونة الملك.. وقف «القايد» من مكانه.. يكاد الشر «يَتَطاير» من وجهه.. ثم قال متوعدا:
ـ اسمع يا هذا.. أنت تستهزئ بنا.. «غادي نْصَيْفْطَكْ فِينْ ترَبَّى..».. قل لنا من هو «البنا»..
جلس «القايد» على كرسيه الكبير عندما أخبرته بقصة تلك الصورة.. ذكَّرته بما حصل معي في لقائي الأخير به.. أكدت له أنه عندما سألني في اللقاء السابق عن «الخميني»، فلم أعرفه ولم أكن أكذب عليه ولا علاقة لي به.. قلت للقائد:
ـ إن «عليا» كرم الله وجهه ليس «مِلْكا» للخميني وحده.. إنه أمير للمؤمنين كافة.. ووالدي ما زال يحتفظ بصورة هذا الصحابي الكبير، فليس معنى هذا أنه شيعي.. إن المغاربة يحبون آل البيت.. (كانت التهمة الجاهزة في ذلك الوقت هو رمي الناس بالتشيع)
انفض الجمع.. ذهب «البودالي» خاسئا إلى «حلفائه» في الكاريان.. ازددت ثقة في النفس.. تأكدت بما لا شك فيه أنه بالفعل للمعلومة سلطان لا يقهر.. وأنه بالعلم يمكن أن يحترمك الجميع بما فيهم «القائد»..
انتصرت على «البودالي» و«القايد»، لكن الحقيقة المؤلمة هي أني أصبحت أعيش في بلدي بفؤاد مصري.. أمشي في المغرب وعقلي في المشرق.. انسلخت تماما عن واقعي وتاريخي وبت «كِنَانِيًا» حتى النخاع.. أثرت في كتب «البنا» و«قطب» تأثيرا غير محدود.. أصبحت أكره «عبد الناصر» و«السادات».. أحب ما يحبه «الإخوان».. وأمقت ما يمقتون..
هكذا تربى الرعيل الأول من «الإسلاميين» المغاربة.. تربوا في البداية على موائد «البنا» و«قطب» و«المودودي» و«رشيد رضا» وغيرهم.. كانت فكرة الحركة الإسلامية فكرة مشرقية استوردها المغاربة بلبها وقشورها.. كان قدري أن آكل بشراهة من هذه المائدة الوافدة من بلاد بعيدة.. تركني «أبو أيمن» وحيدا تائها ألتهم ما أنتجه «الإخوان» الأوائل بأرض الكنانة.. أجد له عذرا لأنه هو أيضا كان ضحية لهذا الغسيل الدماغي الذي تعرض له «المتدينون» في تلك الفترة.. أتحدى كل من يقول بعكس ذلك (لا أتحدث هنا عن العدل والإحسان، فمنبعها التصوف).. عشت في البادية وعاش أجدادي كذلك على دين «التيجاني» و«البوعزاوي» و«الشاذلي»… ولم يدينوا بغير هذا..
عندما انتميت إلى دين «البنا» أضحى هؤلاء الصوفية أعدائي.. وأول من «جاهدت» فيهم كان هما والدي «البوعزاوي» ووالدتي «التيجانية».. استصغرتهما.. سفهت أحلامهما.. طعنت في اعتقادهما انتصارا للفكر «الإخواني» العابر لحدود المغرب بدون «فيزا».. كان سفراء هذه الثقافة الدخيلة هم الرعيل الأول من «إسلاميي» المغرب.. ضحكت كثيرا عندما سمعت «زعيمنا الأكبر» على شاشة التلفاز يصر على «أصالة» الحركة الإسلامية في بلادنا..   عشت شهورا على هذا الحال.. وأنا ألازم «أبو أيمن» ملازمة الظل لجسد الإنسان.. انبهر «الأخ» بتيار التغيير الذي اجتاح كياني والتحول المفاجئ في حياتي..
ذات فجر، شدَّ «أستاذ العلوم» على يدي بحرارة دون أن يبتسم ابتسامته المعهودة.. لأول مرة يسألني عن أحوالي وعن أسرتي.. فطن إلى أني طلقت كل شيء يربطني بأبي وأمي وأخي وأختي.. أقصد الروابط الروحية.. طبقت حرفيا مبدأ «المفاصلة» كما في معالم الطريق التي رسمتها لنفسي..  قلت للوالد:
ـ البوعزاوي أبدع طريقة في الدين.. وأنت اتبعت دينه.. وما عليك إلا أن تتوب إلى الله.. وتتبع سنة النبي «محمد» (صلى الله عليه وسلم)..
وقلت للوالدة:
ـ أنت وإخوانك وأجدادك «التيجانيون» لستم على هدى.. فاتبعوني أهدكم سبيل النجاة..
وقلت لأخي «محمد» الطالب في المعهد الإسلامي:
ـ أنت مجرد آلة حفظ.. تحفظ متونا أكل عليها الدهر وشرب.. وسيصنع منك التعليم العتيق «عالما» من علماء «المخزن»..
الوالد اتهمني أني اتبعت دينا جديدا لم يسمع به من قبل.. وأعلن للجميع أنه يخالفني التوجه.. ربما خوفا من بطش «القائد» و«المقدم»..
أما الوالدة ـ رحمها الله ـ فكانت تدعو لي بالهداية والسلامة وتقول لي دائما: الله يهديك.. وينجيك من أولاد الحرام..
وأما «محمد»، فتحالف مع الفقهاء.. وتجاهل تماما ما أنا عليه.. يتحاشى دائما أية مواجهة معي.. اتخذ سبيله في الحياة غير عابئ بأحد.. ولا ملتفت إلى الوراء..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى