دين و فكر

يوم صعقني القائد 22

اجتمع «الفقهاء» بالمسجد تحت رئاسة «البودالي».. فقيه من أصول جبلية.. رجل غامض إلى أدنى حد.. باختصار هو القيم على الشؤون الدينية للكاريان.. حضر هذا اللقاء الطارئ أخي «محمد» لأنه كان محسوبا عليهم.. بالنسبة إليه حدث ذلك مصادفة، لكن «الفقيه» كان على درجة عالية من الذكاء.. انتظر قدوم أخي ليلة السبت من المعهد وأثار قضية «قراءة القرآن» في حضرته.. إمام المسجد ظل صامتا طيلة اللقاء.. كان «البودالي» أكثرهم حماسة لمواجهتي والنيل مني.. جاء «محمد» بعد صلاة العشاء إلى المنزل مستاء على غير عادته.. وجَّه إلي الحديث أمام والدي ووالدتي وأختي «زينب» التي غالبا ما ترجع منهكة من العمل ولا وقت لديها لمثل هذا الحديث:
ـ اسمع يا فلان.. «الفقهاء» سيشنون عليك حربا لا هوادة فيها.. وهم غاضبون منك كثيرا..
قاطعته كالعادة:
ـ سيرد الله كيدهم في نحورهم.. فهم على باطل.. وأنا معي الحق.. ولا قدرة لهم على مواجهة الحق.. ولا أخاف من أحد غير الله..
تدخل والدي بكل قوة:
ـ أنت ولد «زائغ».. ستسبب لنفسك ولنا متاعب كثيرة في هذه الحياة.. ابتعد عن طريق «الفقها».. ستصيبك لعنتهم.. ألا تذهب تبحث لك عن عمل وقد ضيعت دراستك.. (تمتم في نفسه لا حول ولا قوة إلا بالله)
والدتي تتوجه إلي بكل هدوء:
ـ اسمع فلان.. لقد كبرت ما شاء الله.. وأنت ذو عقل راجح وأنا أثق فيك.. سألتمس من جارنا «حسن» أن يجد لك عملا معه في «البلدية».. إنه رجل طيب.. وبذلك تنأى بنفسك عن كل مشاكل «الكاريان»..
شعرت بقوة خارقة تعبر جسدي.. كأنه تيار كهربائي عالي الضغط.. وأبديت رغبة طائشة في الممانعة.. وأيضا في القضاء على دابر «المبتدعة».. وقلت للجميع:
ـ لا مجال لمناقشتي في هذا الأمر.. قطعت عهدا على نفسي أن أنقي الكاريان من أمثال هؤلاء.. قد دقت ساعة التغيير.. أنا سأتولى أمر «الفقهاء».. (أصيب الجميع بالذهول.. ابتلعوا ألسنتهم.. وانفض الجمع..)
مرت أيام قليلة حتى طرق ـ ذات صباح ـ مقدم الكاريان ويدعى «شقيفة» باب «البراكة».. سمي بذلك لأنه يأخذ الرشوة.. ولاشتهاره بأخذ «شقفة» (قطعة) من النقود المعدنية.. هرعت إليه والدتي مسرعة وسمعت حديثها معه وأنا ما زلت في الفراش.. قال لها «شقيفة»:
ـ «القايد» يستدعي ابنك على عجل..
لم تتركه أمي يكمل كلامه:
ـ ماذا فعل؟؟ إنه لا يخرج من الدار إلا ليذهب إلى المسجد..
رد عليها المقدم:
ـ ذاك هو المشكل؟.. وهو على كل حال سيعرف عندما يلتقي به.. المهم أن يمتثل لأمر «القايد» هذا الصباح على الساعة العاشرة..
نهضت من الفراش منزعجا على غير عادتي.. أخبرت الوالدة أني سمعت كل ما دار بينها وبين المقدم.. والدي بدوره سمع حديثنا جميعا..
قال لها الأب:
ـ أنا أعلم أن ابنك هذا لن يرتاح له بال حتى يقضي علينا تماما.. ويعجل برحيلنا إلى الدار الآخرة..
لم تجبه الوالدة.. أما أنا فقد شعرت بخوف شديد.. كاد قلبي أن ينفطر لذلك.. لم تعد لي شهية للفطور.. هذه أول مرة أواجه فيها «المخزن».. إنه «القايد» مرة واحدة.. اعتقدت أننا تركنا هذا الكائن «المخيف» وراءنا في الدوار.. ظننت أننا لن نلتقي رجاله أبدا.. كيف أنسى ما فعله بنا «الشيخ» و«الدركي» و«القاضي»… كان الوالد هو من واجه هؤلاء في المرحلة السابقة.. ويبدو أني أنا من سيتولى هذا الأمر في المرحلة المقبلة..
كلما اقتربت الساعة العاشرة تسارعت نبضات قلبي.. أحسست بضيق شديد في صدري عندما ولجت بناية «القيادة».. المقدم «شقيفة» يرمقني من بعيد.. «المخازنية» في كل مكان.. الموظفون يعملون بهدوء تام.. «الشواش» يتأبطون الملفات وهم يخرجون من مكتب ليدخلوا غيره.. مكتب «القايد» يوجد في ناحية لوحده.. وعلى بابه «مخزني» ضخم البنية.. أسود اللون.. تكاد ملامحه تشبه صورة «بوغطاط» التي عشعشت في دماغي زمن الصبا.. «الحاجب» يجسد بالفعل صورة «المخزن».. يسأل كل من يمر بجانبه:
ـ ما الأمر؟؟ ماذا تريد؟؟ انتظر بالخارج!! «القايد» مشغول..
لا يكاد «المخزني» ينتهي من إصدار الأوامر.. كل شيء يبعث على الرهبة في هذا المكان.. حتى رائحة «القيادة» تكاد تخنقني.. لم أذهب ولو مرة واحدة من قبل إلى البيت الذي يتخذه «المخزن» مقرا له.. توسلت والدتي إلى أبي أن يصحبني إلى «القايد» فرفض.. على الأقل كان سيخفف علي من وطأة هذا اللقاء.. تركني الوالد ـ رحمه الله ـ أواجه مصيري وحيدا دون سند.. فهو لم ينس أبدا ما حدث له في البادية..
الآن الساعة تشير إلى الحادية عشرة.. و«القايد» ما زال لم يأمر بإدخالي إلى مكتبه.. فجأة لمحت الفقيه «البودالي» يتحدث مع «شقيفة».. ازداد الضغط علي أكثر.. يتحدثان ثم ينظران إلي.. لم أعد أتحمل نظراتهما.. شعرت بأن أصعب شيء في الحياة هو أن تنتظر شيئا.. وكأن الانتظار كائن حي لا بد لك من التجلد على مواجهته.. لم أجد أبدا جوابا على هذا الخوف الذي يكاد يمزق أحشائي..
دقت الساعة الواحدة من زوال هذا اليوم الرهيب.. كدت أصاب بانهيار عصبي حينها نادى المخزني بصوت مرتفع:
ـ فلان.. فلان..
أجبته بعد أن سرى تيار كهربائي في أعماقي:
ـ نعم أنا فلان..
أخيرا دخلت إلى مكتب «القايد».. رجل قصير جدا.. يتوسط مكتبا عريضا جدا.. يجلس «شقيفة» على كرسي أمامه.. والفقيه «البودالي» على كرسي مقابل له (البودالي يبدو أطول منهما).. بقيت أنا واقفا بعد أن أدخلني «المخزني» وعاد أدراجه إلى الخارج.. نهرني «القايد» بشدة:
ـ أنت فلان بن فلان..
ـ نعم… أنا فلان..
ـ الفقيه «البودالي» يقول إنك من «أصحاب الخميني»..
ـ لا أعرف من هو «الخميني»..
شردت قليلا.. لأني بالفعل لم أكن أعرف هذا الاسم وقتها.. وبدا لي اسما مألوفا.. فتشت في عقلي لعلي أفك هذا اللغز.. قطع «القايد» شرودي:
ـ نحن نعرف عنك كل شيء.. الفقيه «البودالي» قدم شكاية ضدك بأنك منعتهم من قراءة القرآن.. أحدثت الفوضى في بيت من بيوت الله.. وتعمل على زعزعة عقيدة المسلمين.. وتمس بأمنهم الروحي…
تدخل «الفقيه» بشدة في حضرة «القايد»:
ـ أبوه «درويش».. وهو يمشي مع «اللحايا».. خصوصا مع ولد «فطومة».. (شقيفة ظل صامتا طيلة هذه المواجهة.. فهمت أن البودالي هو عون للسلطة مكلف بأمور المسجد)
جفَّ فمي ولم تعد فيه قطرة ريق.. أضحت ركبتاي عاجزتين عن حملي.. ولم أعد أسمع دقات قلبي.. تحسست في لحظة من اللحظات فؤادي لأطمئن أن هذا الجهاز ما زال يشتغل.. نظرت إلى «الفقيه» ثم إلى «القايد».. ولم أملك أية حجة أرد بها على هذه الرزمة الخطيرة من التهم التي أسمع بها لأول مرة.. حينها أكمل رجل «المخزن» كلامه:
ـ بناء على ما فعلته يمكننا أن نقدمك إلى العدالة لتبت في أمرك.. لكننا سنسامحك هذه المرة.. إن اقتربت من «الفقها» فسأعتقلك شخصيا وأحيلك على وكيل الملك مباشرة..
لم أصدق نفسي أن «القايد» عفا عني.. تسمرت في مكاني أنظر إليه حتى نهرني بشدة، فقفزت مرعوبا:
ـ «سِيرْ قَابَلْ قْرَايْتَكْ.. وبَعَّدْ من هَدُوكْ صْحَابْ اللْحَايَا.. رَاهُمْ غَادِينْ يْخُرْجو عْلِيكْ..»
قبضني «المخزني» الأسود من ساعدي بقوة وجرَّني إلى الخارج.. وجدت نفسي في بهو «القيادة».. عادت إلي مرة أخرى الحياة.. مرَّ كل شيء كالبرق.. كأني تلقيت صعقة كهربائية قوية هزت كياني.. وشتَّت أفكاري.. ولم تترك شيئا مرتبا في عقلي..
توجهت إلى المنزل بخطى متثاقلة.. لم يسعفن دماغي في تفسير ما حدث للتو.. ماذا؟؟؟ «الخميني»؟؟؟ زعزعة عقيدة المسلمين؟؟؟ «صحاب اللحايا»؟؟؟ بدأ عقلي يشتغل لوحده مثل «ماكينة الصابون».. كل شيء يتشقلب فيها ولا يكاد يستقر على وضعية معينة.. لم أخبر والدي بما وقع.. استفسرت والدتي عن فحوى اللقاء، فلم أكترث لها.. هناك شخص واحد في الكاريان هو الذي بإمكانه أن يشرح لي ما حدث زوال هذا اليوم.. إنه جارنا «أبو أيمن».. شعرت بحاجة قوية إليه.. إنه وحده من سيساندني في هذه المحنة..
روَّجَ المقدم «شقيفة» والفقيه «البودالي» للخبر في كل أرجاء الكاريان.. وقصَّا القَصَصَ على الناس.. وافتريا الكذب عليهم.. وزادا في الأحاديث ما شاءا.. وتفننا في الرواية وأضافا إليها بعضا من المستملحات.. قالا إني أصلي «صلاة الخميني».. وإني «شيعي».. صادف هذا الحادث حربا شرسة كان يقودها آنذاك الراحل «الحسن الثاني» ضد «الشيعة» وإمامهم الجديد «آية الله الخميني».. وجدت نفسي فجأة في معمعة الأحداث..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى