الرأي

ألكسندر هيغ يبعث من جديد

ألكسندر هيغ، وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، كان مختلفا عن سابقيه وتابعيه. إنه ليس واينبرغر الذي اختلط عليه اسم مليلية المحتلة شمال المغرب بالعاصمة الفلبينية مانيلا، وليس كولن باول الذي خاض حربا في مجلس الأمن ثم تراجع عنها بمبرر تغليطه.
بين من كان يصفه بالتلميذ النجيب لوزير الخارجية هنري كيسنجر، صاحب نظرية «الخطوة خطوة»، ومن كان يرى فيه مهندسا استراتيجيا محنكا، تناثرت التسميات والنعوت، ورشح منها أنه كان ينظر إلى الشرق الأوسط والخليج من أبعد نقطة ممكنة. كذلك هي حال رجالات السياسة، بعض الأمريكيين تحديدا يلقي ببصره على العالم، انطلاقا من نافذة البيت الأبيض، وبعضهم يحلق من أعلى طابق في مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، وآخرون ينزلون إلى الميدان، مرورا بالعواصم والتضاريس المؤثرة، وقد كان هيغ من هذا النوع.
الزمن لا يعود إلى الوراء، لكن بعض النظرات إلى الخلف، كما في السياقة التي اهتدت قوانينها الاحترازية إلى إلزام السابقين بالتطلع إلى الخلف بين فينة وأخرى، تسمح بتصحيح الرؤية، خصوصا عندما يهيمن الضباب ويتلف علامات الطريق. وعندما جاء وزير الدفاع الأمريكي ألكسندر هيغ إلى مراكش وليس الرباط، ذات توقيت في مطلع الثمانينات، لم يكن يتجاهل أن أكبر قاعدة عسكرية مغربية توجد على بعد مسافة البصر التي يتراءى منها نخيل مراكش الحمراء، عند خطوط التماس مع قاعدة بن جرير.
العسكريون يستخدمون الخرائط، والسياسيون ينقبون عنها في باطن التحولات والضرورات. وحين لم تكن منظومة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تبلورت بعد، عبر مفاهيم التنظيرات والاستقطابات، إبان اشتداد أوار الحرب الباردة، كانت الطريق من المغرب إلى الشرق الأوسط والخليج سالكة، كما في ملاحم التضامن التي تزخر بها حقائق تاريخية دلت على وحدة هذا الكيان الذي تغنى به الشعراء من عمان إلى تطوان، ومن بوابات القدس إلى منارات القرويين.
في أي حال، فقد كانت عاصمة المرابطين ملتقى طرقات وقوافل التجارة والإشعاع الروحي والثقافي، وأي حضارة لا تقوى على الصمود من دون قلاع وحصون حامية؟ إلا أن المغاربة الذين ناهضوا استمرار وجود القاعدة العسكرية الأمريكية في القنيطرة، في فترة ذروة الحماس الذي كان يرفع شعار التصدي للامبريالية العالمية، تعلموا من التجارب أن ثمة فوارق بين استيطان القواعد الأجنبية، وإقامة علاقات تعاون أكثر انفتاحا في المنظومة الدفاعية التي لا يختلف فيها امتلاك السلاح عن التأهيل المعرفي، وتنمية القدرات الاقتصادية والمناعة الاجتماعية.
هي الحرب تقوي ملكة الشعوب. وحدث أن أبطال القوات المسلحة الملكية الذين استرخصوا الدماء وكافة أنواع التضحيات في معركة الجولان السورية، اضطروا إلى مواجهة غارات أسلحة مناوئة تنطلق من جوارهم التاريخي. غير أن الدفاع عن القضايا المبدئية العادلة يظل واحدا. وحيث يكون الحق، ينبري المغاربة لنصرته، على امتداد رقعة الأرض. أليسوا هم أحفاد المجاهدين الذين ناصروا صلاح الدين الأيوبي؟ أليسوا هم الذين أرسلوا البواخر الحربية وربابنة البحر لتعزيز الأساطيل العربية إلى مصر والمشرق؟
جاء ألكسندر هيغ إلى مراكش، حاملا كتابه بيده. قال إن واشنطن تدعم جهود المغرب في صون السلم والأمن والاستقرار، وإنها ترغب في تطوير مجالات التعاون العسكري مع المغرب، بحكم موقعه الاستراتيجي وتجربته الغنية وسمعته الطيبة. تأمل المغاربة في مضمون العرض الأمريكي، وهم يضعون في الاعتبار أن لاشيء يعوض استقلالية القرار.
قال الأمريكيون إنهم يرغبون في الاستفادة من قواعد عسكرية مغربية للتوقف والتزود بالوقود، ووضعوا نظراءهم في صورة خلفيات الأسباب، يوم لم يكن أحد يتصور أن الخليج بالذات سيصبح مركز استهداف عند مرافئ المياه الدافئة. ولما بدأ الدب السوفياتي يزحف على أفغانستان بدعوى حماية النظام الشيوعي الذي أقامه الرئيس كارمل، لاحت بوادر أشرس المعارك القادمة.
في بيان مقتضب، قوبل بردود فعل مناوئة، خصوصا من سوريا واليمن الجنوبي والجزائر وليبيا، تجلت الصورة وانقشعت بوضوح لا غبار عليه. يقول البيان إن المغرب والولايات المتحدة الأمريكية أبرما معاهدة دفاع، تقضي بالسماح للطائرات الأمريكية بالتزود بالوقود من قواعد مغربية «في حال تعرض الخليج إلى مخاطر». وفيما كان المغرب يضع خطا أحمر على هذه الفقرة، بالغة الإيحاء والدلالات، سارعت عواصم عربية إلى انتقاد الموقف المغربي بشدة، لا يستسيغها أي عقل استراتيجي ينظر إلى الأحداث في سياقها، حاضرا أو مستقبلا.
من بين القادة العرب الذين عارضوا توجهات المغرب، برز اسم الرئيس السوري حافظ الأسد. ولم ينقض عقد كامل، حتى كان ينضم إلى التحالف الدولي في الحرب على العراق، حيث وقفت قوات بلاده إلى جانب عساكر الولايات المتحدة، بعد أن سقطت ذرائع وهمية. ثم انتهى ما تبقى من سوريا ومن العراق إلى كانتوهات يعشعش فيها التطرف والعنف واللاعقل. ولم يكن مصير ليبيا معمر القذافي مختلفا في مزالق اللادولة واللاقانون وغياب الاستقرار..
وحدها دول المنظومة الخليجية والمغرب صمدت في وجه الرياح المتقلبة. ولو كان في وسع الوزير الأمريكي ألكسندر هيغ أن يعاود ترسيم مكعبات المرحلة، لأدرك كثيرون أن لعبة مربع الألوان الذي شغل جيلا بكامله، قبل اكتشاف الألعاب الإلكترونية، وجد حله الصحيح في تلك العبارة الفريدة التي قالت إن المغرب مستعد لكل شيء دفاعا عن الخليج، في حال تعرض إلى مخاطر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى