الرئيسيةثقافة وفن

أمجد ناصر.. رحيل الشاعر الذي رثى نفسه

إعداد وتقديم: سعيد الباز

بعد أن رثى نفسه حيا وعاد قافلا إلى مضارب أهله لينازل المرض في آخر جولاته، يرحل تاركا غصة أليمة لدى الكثير من محبيه وأصدقائه الكثيرين في العالم العربي. أمجد ناصر أو يحيى النميري النعيمات لم يكن شاعرا أو كاتبا عاديا، ذلك أنّ مساره الإبداعي كان رحلة متواصلة من البحث والتقصي عن الجديد والأخاذ والآسر. فقد كان في مستطاع قصيدته أن تمرّ سريعا من شعر التفعيلة إلى قصيدة التفاصيل اليومية في «مديح لمقهى آخر» إلى قصيدة النثر المشبعة بأنين الذات وأوصابها من «منذ جلعاد كان يصعد الجبل» إلى كتابه الفاتن الذي يقارب فيه الكتابة الإيروتيكية من منطلق الذاكرة العربية وموروثها في «سرّ من رآك»، إلى التاريخ وتحديدا الأندلسي في «مرتقى الأنفاس».. وأخيرا سيعمق أكثر في البحث عن قصيدة نثر أكثر تجذرا في «حياة كسرد متقطع»..، لكن أمجد ناصر ظل، قبل أي شيء آخر، رحالة في المكان والزمان، تشي بذلك كتبه التي دون فيها سلسلة طويلة من الرحلات شرقا وغربا، هو الذي وصف نفسه بمدبّر شؤون الحنين كثيرا ما أصغى لموته الخاص بشكل مبكر كاد أن يكون تنبؤا خالصا، وتحدث عن مرض السرطان قبل عقدين من الزمن بوصفه «صائد الغفلات اللعين» وعن موته أخيرا في بلدته «المفرق» الأردنية، مؤشرا على نهاية رحلته الأخيرة الحافلة بروح الإبداع وشغف الحياة.

جمال القصاص:
أيّ ناي فكّ أبدية الانتظار؟

أمجد ناصر.. انتظرني قليلا
كنت أظن أن ثمة خمس دقائق أخرى
كي نطوي هذه الورقة معا
لا ملائكة في عقارب الساعة
لا بحر، لا أسماك
الحياة صغيرة جدا
كم مرة كنا نشبهها بقرني ثور،
بعاصفة في كوب
كم مرة كنا نخدعها ونتركها في الركن
وحين تصحو.. نوبخها :
تأخرت على المدرسة أيتها الطفلة العجوز،
أي طائر رفرف على كتفيكَ
أي ناي فكّ أبدية الانتظار
وأنت تصعد
تمنح السماءَ حرية الطيران
حرية الزرقة
وتهتف: قلبي ليس أعمى
كي أضل الطريقَ إلى الحزن.
أمجد.. يا صديقي الطيب
أعرف أن صوتك الآن مشوش ومضطرب
وأنه يبتعد مثل صحراء فرّت من كفك للتو
لكنك ستظل معي
سنجرب من جديد
كيف نسكن هذه الأرض
لن نزعجها بأشجار لا تعرف كيف تشفي الهواءَ
أو تحصي جماجم القتلى
فقط سنعلمها كيف تحسن آداب المائدة.
(شاعر مصري)

أحمد الملا: ليس أقل من هذا
«بعد صراع مع المرض»..
جملة أحتقرها جدا، لا تدل على حقيقة على الإطلاق. فهي تنتصر للقاتل على القتيل، حين توهم بفروسية ونبل الاثنين على السواء.
الأنكى إذا قرن الفعل بصفة «طويل».
«بعد صراع طويل مع المرض»
يراد بها الإيحاء بفعلين يعقلان بعضهما، وهذا معنى فاسد.
كل مرض، هو خبيث وجبان، يندس مخادعا، ويتسلل بمكر. ينكل بجسد أعزل، تهمته الوحيدة، تشبثه بالحياة.
المرض، خائن يتربص، يعمل لصالح عدو لا يكشف عن وجهه، إلا في آخر المعركة.
المرض أبعد ما يكون عن الشجاعة والمواجهة، وهو ما تتطلبه صفة الصراع، بين ندين.
إذا قيلت كلمة «صراع» حافة هكذا، مع المرض، نقع في فخ نصب مسبقا، فالمرض جاسوس، يبحث عن نقطة ضعف، يحفر فيها، حتى يهيئ الفريسة، جرعته المسمومة الأولى، هي تقبلنا لخديعة التسمية.
«صراع مع المرض»، توهم أن هناك طرفين على أهبة الاستعداد لنزال متكافئ بمحض إرادتهما.
إذا فرضنا أن الأول هو الجسد المتشبث بالحياة، فكيف نجرؤ على رفع المرض الخسيس إلى مرتبة ومقام العدو، إنه لا يستحق إلا صفة ساعي بريد، غير هذا يكون استخفافا واستهانة بالحزن على مشارف القبر.
انحياز فج، ضد طرف كشف عن صدره ودافع بجسده، لقاء طرف يتخفى ويتحين الفرص، في هذا «الصراع»، طرف لا يمثل المرض إلا دسيسته، ونافث السم، الطرف الذي تعف الألسن عن ذكره.
لذا أوصي أن يختتم خبر نعيي، بصرامة ووضوح، هكذا:
«أحمد» وافته المنية، بعد صراع مع الموت»….
نعم صراع مع الموت، وليس أقل من هذا.
(شاعر سعودي)

زليخة أبو ريشة: أمجد قطعة فؤادٍ من البياض العاجيّ
لأمجد طقوسٌ في يومه وفي أسبوعه؛ فهو يستيقظ ويستعدُّ ويفطر ويحمل عدّته إلى أحد المقاهي الأثيرة، مثل تلك التي على أحد فروع التيمز في منطقة ريتشموند، حيثُ تترقرقُ مياهٌ بعيدةٌ في حلمه البدويّ، ويستغرق الشاعر في الكتابة حتى ما بعد الظهيرة، ليتوجَّه بعد ذلك إلى مكتبه في القدس العربي، في همرسمِث، ليعود حوالي الثامنة مساءً. أما السبت فهو للخروج مع هند للتسوّق. هو يكتبُ كلَّ يوم، لا يخرمُ موعده مع الكتابة إلا حادث جلل. أمجد طيِّبُ العلاقة مع جميع أفراد عائلة هند، ومُحِبٌّ لأصدقائه، ومعاتبٌ فذٌّ لتقصيرهم، بينما هو قلَّما يرى تقصيرَه، وبينما كل ما يحتاجُ إلى سماعه بعد اللوم الذي يوجّهه دون تريّثٍ هو عبارة «حقك عليّ»، وربما شوية اعتذارات أخرى تنتهي بضحك الطرفين؛ فأمجد قطعةُ فؤادٍ من البياض العاجيّ لا يعرف الحقد، وهو كائنٌ قطعَ أشواطاً في تخليصِ نفسه من قيم مجتمعٍ تُكبِّلُ الروح والإبداع. فمن مدينتَيْ المفرق والزرقاء ذهبَ بعيداً في رحلته متحرِّراً من عُقَد التربية التي تواجه شاباً طموحاً بحجمِه، ومن بيئةٍ محدودة كبيئته، ليشكِّلَ كينونةً أَريبةً مهمّةً في أفق الثقافة العربية المعاصرة والحداثويّة. فهو ليس شاعراً متميّزاً فحسب، جعلَ من كلِّ كتابٍ أنجزه أسلوباً فارقاً في الكتابة الشعريّة، بل هو ناقدٌ ثقافيٌّ وأدبيّ وقارئٌ جماليٌّ للأمكنة وتاريخها، أيضاً. قال لي محمود درويش يوماً: أنا لا أكتب قصيدة النثر، ولكني أحبّ نصوص أمجد ناصر. ويوماً قال أمجد لابنه أنس: أنا لا أطمح أن أزاحم درويش أو أدونيس، اللذين أحبهما حباً جماً، ولكن عيني على أولئك الذين في قمة العالم: استورياس وأوكتافيو باث وفارغاس، أو ما في معناه!! وفعلاً فإنَّ شعر أمجد لا يشبهُ شعر كبار شعراء العربيّة؛ فخطُّه مختلفٌ، حيثُ نزعَ عنه الغنائيةَ بعد أوَّل ديوان، وراح يفحص بقدمه أرضَ الشعر خارجَ هواء المدن وداخلها، متمرّداً على كلِّ ما هو جاهزٌ أو سابقٌ. فهو بدويٌّ متمرِّسٌ بالخشونة والمَحْلِ وقلّة الزاد، وعليه أن يعيدَ تدويرَ رؤاه ونسفَها على نحوٍ ليس بعيد عن الجَدّةِ المُقعية على نارها كغزالةٍ مُعَمِّرة!!
وها هو أمجد لا يكادُ يهدأ بين لعنة لندن ولعنة المفرق، فعندما صحا من تخدير عملية إزالة الورم من الدماغ، قال لي بصخَبِ صوته الضاحك، وبكلام فصيحٍ مريحٍ متماسك عَفيّ: «كأنَّها لعنة»، يقصد مرضه واكتشاف السرطان في الكِلية التي أهداها لهند!
لا يا صديقي! إنها لعنة الشعر هذا الرفيق اللدود!
لتنهضْ معافىً مثل كتابٍ ينتظر توقيعك!
(شاعرة وكاتبة أردنية)

أحمد الملا: مات صديقي.. لم أودعه
مات صديقي، لم أودعه. الوداع صعب. لم تستطع يدي أن تقطف الرمانة الأخيرة عن شجرة الرمان أبدا. تركتها دوما تسقط وحدها، كي تكتشف قارة الموت بنفسها. كان مسجى في الغرفة على سريره، فطلب أن يخرجوه كي يرى السماء. أخرجوه وحدق في السماء لدقائق. ثم هبت ريح نشطة وألقت برأسه نحو اليمين، فأقفل عينيه ومات. أنا أذكر اسمه حتى الآن، أما هو فلا يذكر اسمي. سقطت الأسماء من فمه كأنها أسماء تالفة. سقطت النجوم من عينيه كأنها حفنة تراب. كنت قد وعدته يوما أنه لن يموت. قلت له: ليس هناك موت، ليس هناك موت أبدا. لكن الحقيقة أن الرمانة الأخيرة سقطت، وأن سواحل قارة الموت الكبيرة بانت من خلف الضباب.
سأتباطأ في اللحاق به. لدي أشياء قليلة أنا ملزم بفعلها. وأنا لا أتحدث هنا عن الشعر والكتب. أنا أتحدث عن أربعة كيلومترات أربعة أمشيها صباحا، وعن مقهى أقعد فيه ساعتين كي أرى السماء والشمس من وراء زجاجه العريض. هذا كل شيء. ليس هناك ما هو أبعد من هذا.
بقي قليل من الوقت. سأقيس فيه بذراعي قضبان الرمان. سأقيس صمود الأسنان على ضبّة الأسنان.
لو أن أهله وضعوا في فمه زهرة قبل دفنه لكان هذا عزاء. ولتكن زهرة بلاستيكية كي تصمد قليلا. كي يتذكر بها، ولو بجهد، أنه كان هناك شعر، وكانت هناك قصائد. فهناك حيث يمضي ليس من شعر ولا نثر. هناك بيضة لا تكسر وليس لها باب. هناك كلاب تقعي على الكثبان. وهناك حنطة مخلوطة بالتراب.
أيا كان، لقد كتب ما يكفي من الشعر كي يتذكره خمسة أو ستة، وهم يشربون كؤوسهم، بعد عام أو عامين. هذا هو التراث الذي سيأكله أكلا لمّا. هذه هي البيضة الكلسية التي سيلعب بها هناك.
(شاعر وكاتب فلسطيني)

صالح لبريني: صالح لبريني: أمجد ناصر الضليع في اقتراف جنحة التجاوز
يشكّل رحيل الشاعر أمجد ناصر نكسة جديدة في تاريخ الشعر العربي المعاصر، وخسارة كبرى للمشهد الثقافي العربي، والعلّة في ذلك كونه من الشعراء المؤمنين بأحقية الكتابة المفتوحة على أفق لانهائي، أن تحيا وتُتداول بأريحية ورحابة حلم، على اعتبار أمجد ناصر حفر اسمه بجدارة قلّ شبيهها ونادرة العثور عليها في زمن عربي يعيش ارتكاسة وجودية، تاريخية وحضارية. فهو الشاعر الذي آمن بالإبداع الجانح صوب الغريب والمذهل، الغريب في بنية النص الشعري، والمذهل في الأشكال التعبيرية التي يخلقها انطلاقا من رؤية مصدرها الاحتفاء بالحياة وتجلياتها المتجذرة في اليومي والعابر.
ولعلّ هذا النوع من الكتابة تجلّ من تجليات رغبة الشاعر في مطاردة الخيالات المحفّزة على ارتياد الغامق والغابر في الوجود والذات، والسعي نحو كشف المضمر في اللغة، وتجاوز السطحي الذي يكلّس النص ويحوّله إلى جثة عطنة بفساد اللغة والخيال والمجرّد، وتلك غاية لا يقصدها نص أمجد ناصر، وإنما حُلمه ابتداع النص الهارب والفار من كل تحديد أو قالب بإمكانه خنق أنفاسه، وتقييد حريته. أمجد ناصر لم يفكّر يوما أن يتجاسر على النص بدون معرفة شعرية ومعرفية بكل الأشكال والتجارب الشعرية الأخرى، الأمر الذي ميّزه عن باقي مجايليه، فهو على الأقل انتصر وبدون ادّعاء للنص المخاتل، المراوغ، المتمرد على أعراف التحنيط الشعري الذي وسِم الشعرية العربية المؤمنة بالعمود الشعري، فشعرية العمود لا موطئ قدم لها في كتابة أمجد ناصر، لقد خلق نصّه المنبثق من رحم المكابدة، والضليع في اقتراف جنحة التجاوز والخروج عن سلطة الثابت، والمحطّم قداسة اللغة والشكل، وتلك مزية من مزايا النص الحي والمستمر في مناوشة تقاليد الكتابة التي لم تستطع ابتداع تقاليد جديدة في التصور والرؤية.
ولا غرو من القول إن ما تطرحه تجربته من أفق شعري مختلف ومخالف للتجارب الأخرى يستدعي العمل على الإصغاء الهادئ والمتأمّل كي نقف عمّا أضافه من إضافات تستحق المكاشفة.

أمجد ناصر: عن السرطان والتنبؤ بالموت
1
كلما تذكرنا صديقا راحلا لاحظنا أنه أصيب به.
أترى؟ لا أحد يموت في محيطنا هذه الأيام بغير السرطان، صائد الغفلات اللعين. قلت هذا للصديق الذي أخبرني عن صديق آخر تسلل إليه السرطان وهو يفكر بمنظور أهلي للصحراء. قال إنّ صديقنا المشترك شعر فجأة بصداع غير عادي فأخذوه إلى المستشفى فوجدوا الورم الخبيث متمكنا من الدماغ فاستأصلوه، ثم أخضعوه للعلاج الكيماوي الذي حتّ شعر رأسه ورموشه وحاجبيه حتى صار له وجه طفل رضيع معتل، ثم مات صامتا، محدقا بمن حوله بذهول غير مصدق أن الأمر كله بدأ بصداع زائد عن الحد قليلا، بانسحاب داخلي بسيط، فمن الخارج ما زال في كامل عدته وعتاده. صمت ثم قال: أتدري أنّ أخي الأكبر مات بالسرطان في الأربعين من العمر؟ فأخبرته أنّ أمي أيضا، باغتها السرطان مرتين، الأولى في حدود الخمسين فأمهلها عشر سنين ثم صارعته في الثانية سبعة أشهر من دون أمل يذكر، والمشكلة أنني قرأت لا أدري أين أن الإنسان يموت كما يموت أهله.
تهيأ لي أنه تحسّس رأسه فقلت له بما أنك تجاوزت الأربعين فمن الجائز أن لا تنطبق عليك القاعدة، أمّا أنا فالاحتمال ما يزال يدوزن أوتاره الرهيبة أمامي.
سألني كيف أحب أن أموت. فقلت له: بالقلب، وأنا نائم على سريري وفي الصباح يجدونني ميتا. فوافقني الرأي قائلا إن السكتة القلبية هي، على ما يبدو، الطريق الأقصر والأقل ألما للموت، فليست لدي شجاعة أخي الذي رفض العلاج الكيماوي وظل بكامل شعره يدخن إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة. صمت فترة أطول ثم قال: هل أنت متأكد أن الإنسان يموت كما يموت أهله؟
فقلت: لا أدري؟
2
لست متأكدا أيضا أن الشعراء قادرون على التنبؤ بموتهم رغم أنّ (سيزار فاليخو) مات في باريس وفي يوم ماطر، تماما، كما تنبأ بقصيدته «حجر أبيض على حجر أسود» وأنا أتوقع في هذه القصيدة التي أكتبها، الآن، أن أموت بلندن في يوم ماطر (يوم ماطر في لندن؟ يا لها من نبوءة !) موصيا، منذ اللحظة، أن أدفن بالمفرق قرب أمي التي ماتت مقتنعة أنه لن يضمّنا حيز ذات يوم.
فالجميع يعلم أنّها ستذهب إلى الجنة التي لن تطأها قدماي !
لندن- خريف 2001 (حياة كسرد متقطع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى