شوف تشوف

الرأي

أمريكا على شاكلة ترمب.. نوستالجيا العنصرية والتسلط

فلندع جانباً أطروحة دونالد ترمب، المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأمريكية، حول ترحيل اللاجئين والمهاجرين غير المسجلين، خاصة المسلمين منهم؛ ومنع المسلمين، الذين لا يحملون الجنسية الأمريكية، من دخول الولايات المتحدة.
هذه لم تعد أطروحة، في الواقع، لأنّ غالبية مريحة من أنصار ترمب (والحزب الجمهوري عموماً) صارت تعتبرها مسلّمة وإجراءً واجباً: في انتخابات مندوبي ولاية كارولاينا الجنوبية، أظهرت استطلاعات الرأي بعد انتهاء عمليات التصويت أنّ الناخبين يعتنقون هذا الرأي، حول الترحيل والمنع، وأنّ ترمب فاز في تلك الولاية بنسبة 47 في المائة.
الجديد هو يقظة المشاعر العنصرية ضدّ مواطني أمريكا أنفسهم، أي السود الأفرو ـ أمريكيين، كما أظهر استطلاع قامت به مؤسسة YouGov، واستعرضته «نيويورك تايمز» مؤخراً.
ورغم أنّ تحرير الصحيفة ارتأى تلطيف المفردات، فتحدّث عن ميول بعض مناصري ترمب إلى «اللاتسامح الديني، أو الاجتماعي، أو العرقي»؛ فإنّ الخلاصة الصاعقة كانت أشدّ وضوحاً من أن تطمسها أية لطافة في الصياغة: لم يقتصر الأمر على تأييد خطاب الكراهية الذي يبشر به ترمب، فحسب؛ بل لقد اتضح أنّ أنصاره يطالبونه بما لم يطالب به هو نفسه، أي الرأي حول المثليين، والحرب الأهلية الأمريكية، وتفوّق العرق الأبيض، والأمريكيين من أصول يابانية، و… إقرار، أو إنكار، الأمر الإداري حول تحرير العبيد، الذي أصدره أبراهام لنكن (لنكولن)، الرئيس الأمريكي السادس عشر، مطلع العام 1863!
لكنّ لنكن نفسه، للتذكير المفيد، لم يستطع، ولم يقبل، مساواة السود مع البيض؛ وفي خطاب شهير قال التالي: «إذا كنتُ لا أريد لامرأة سوداء أن تكون عبدة، فهل هذا يعني أنني أريدها زوجة؟ (هتاف وضحكات) إنني سوف أساند حتى النهاية ذلك القانون الذي يحظر التزاوج بين البيض والسود. وأقول إنني لم أكن، ولن أكون أبداً، من دعاة المساواة الاجتماعية أو السياسية بين العرقين الأبيض والأسود (تصفيق حاد)، أو من دعاة منح السود حقّ التصويت أو عضوية هيئات المحلفين، أو تأهيلهم بما يتيح إمكانية شغلهم الوظائف التي يشغلها البيض»… قبله، في سنة 1783، كان جورج واشنطن، الرئيس الأمريكي الأول، قد أعلن بوضوح أن «التوسيع التدريجي لمستعمراتنا كفيل بطرد الهمجي والذئب على حدّ سواء، فكلاهما وحش برّي وإنْ اختلفا في الهيئة». وعلى نحو ما، كيف يُلام ترمب وناخبوه إذا جرى استلهام هذا التراث، العنصري، أولاً؛ واعتُبر بمثابة روح أمريكا وجوهرها؟
وفي مناسبة الذكرى الخمسين لمسيرة واشنطن 1963، التي قادها الناشط الأفرو ـ أمريكي الشهير مارتن لوثر كنغ؛ شاء مارتن روسن، رسام الكاريكاتور في الـ«غارديان» البريطانية، وضع عبارة «يراودني كابوس» على لسان الرئيس الأمريكي باراك أوباما، بدل عبارة كنغ الشهيرة: «يراودني حلم». ولقد قصد روسن إيصال ثلاث رسائل في آن معاً: التذكير بأنّ حلم كنغ ذاك لم يتحقق تماماً، إذا لم يكن قد انقلب إلى كابوس عملياً؛ وأنّ أوّل رئيس أفرو ـ أمريكي، في تاريخ الولايات المتحدة، هو اليوم الناطق بهواجس الكابوس؛ فضلاً عن حقيقة كابوسية راهنة، ثالثاً، هي «الخطّ الأحمر» الذي كان بشار الأسد قد انتهكه في سوريا يومذاك (والرسم تقصد تحويل مسلّة لِنْكن، حيث ألقى كنغ خطابه في الجموع الغفيرة، إلى صاروخ كروز تحتشد من حوله عشرات الرؤوس الكيماوية).
وبصدد استمرار رواسب الذهنية العنصرية في الولايات المتحدة، خير للمرء أن يقتبس مثالاً يخصّ أوباما نفسه؛ صدر عن جو بايدن، نائب الرئيس الحالي، دون سواه! ففي سنة 2007، في غمرة المنافسات المحمومة على تسمية المرشح الرئاسي عن الحزب الديمقراطي، قال بايدن، في مديح زميله أوباما: إنه «أوّل أفرو ـ أمريكي من التيّار السائد، جيّد النطق، وبرّاق، ونظيف، وحسن المحيّا». ولم يكن بايدن يتحدّث سرّاً في مجلس خاصّ، بل علانية مع مراسل صحيفة الـ«نيويورك أوبزرفر»، الذي سجّل الكلام بالصوت أيضاً. وإذا كان ذاك التصريح قد أثار حفيظة السود، واستدعى اعتذاراً صريحاً من بايدن، فإنّ نعت أوباما بالـ«برّاق»، أثار الكثير من التكهنات. فما الذي قصده بايدن بالصفة تلك، خصوصاً أنه استخدم مفردة Bright وليس Brilliant التي كانت ستُفهم بمعناها الشائع والإيجابي والمألوف، أي «اللامع»؟ هل كان المقصود الإيحاء بأنّ أوباما برّاق البشرة؟ أم برّاق اللسان؟ أم برّاق الهندام؟ ثمّ هل توجّب فهم صفة الـ«نظيف» بالمعنى الحرفي للكلمة، كما ألمح مرشح أسود آخر، غمز من قناة بايدن فأقسم أنه يستحمّ كلّ يوم؟
وليت الأمر يتوقف عند هذه الـ«نوستالجيا» الجَمْعية الشعبية ـ لأنها، في واقع الحال، ليست شعبوية فقط ـ التي تحنّ إلى تراث عنصري ظنّ البعض أنه طُوي واندثر؛ بل إنّ الأدهى هو اختلاط هذا المزاج العدواني ضدّ المسلمين والمهاجرين واللاجئين والسود والآسيويين… برغبة محمومة في البحث عن النزعة التسلطية لدى ترمب؛ كما يشير ماثيو ماكوليامز، في قراءة أخرى لاستطلاعات رأي 358 من ناخبي الحزب الجمهوري في ولاية كارولاينا الجنوبية. العامل الأكثر تأثيراً في دوافع أنصار ترمب، ليس الجنس أو العمر أو المستوى التعليمي أو الإيديولوجيا أو الهوية الحزبية، أو حتى الباعث الإنجيلي كما يظنّ البعض؛ بل هو تبجيل السلوك التسلطي، بالمعنى المحدد الذي يقصده علماء السياسة: أي، باختصار، تلك النظرة الكونية التي تفضّل السلطة والنظام وحماية الأعراف الاجتماعية.
وكان ماكوليامز قد درس هذا الانقياد الأمريكي نحو النزعة التسلطية، فأجرى استطلاعاً وطنياً لقياسه، مقترناً بعوامل ديموغرافية وسياسية أكثر تنميطاً؛ فوجد أن هذه النزعة، مترابطة مع الخوف من الإرهاب، هي عماد التأييد الشعبي للمرشح ترمب.
كذلك استخدم معايير كلاسيكية في الاستجواب، تفضي إلى نتائج سلوكية معيارية بدورها: الخوف من «الآخر»، والاستعداد بالتالي للسير خلف زعيم قوي؛ رؤية العالم بمنظار ثنائي، أسود/ أبيض؛ والتمسك بما يفرزه هذا المنظار من تصنيف للصديق/ العدو… وبين الإجراءات القوية لهذا الزعيم «القوي»، تندرج أطروحات ترمب حول المسلمين، والمساجد، وإنشاء بنك معطيات حول مواطني أمريكا من المسلمين، فضلاً عن ترحيل 12 مليون مهاجر…
لَكَم تغيّر العالم! بصدد أمريكا، تكتب أنيتا روديك، مؤسسة سلسلة المتاجر الشهيرة التي تُعرف باسم الـBody Shop بادىء ذي بدء، لم يعد الأوروبيون طامحين إلى مجاراة الأمريكيين. مَن الذي سيفعل، الآن إذْ يتضح كيف يسير ذلك البلد، بعناد تامّ، نحو الدكتاتورية؟
في غضون أشهر قليلة تهافت الأمريكيون على محو حرّياتهم المدنية، وبصورة فاضحة. والمُثُل التي تعهدت أمريكا بتصديرها إلى الكرة الأرضية قاطبة، ها هي تتشوّه في الداخل الأمريكي، علانية وجهاراً. وذات يوم كان الأمريكيون يتفاخرون بحقّهم في نقد حكومتهم، أمّا اليوم فإنهم يستمعون إلى مَن يقول لهم إنّ المنشقّ عن سياسة الحكومة ليس أفضل من الإرهابيين.
الولايات المتحدة الآن دولة مارقة، ترفض الإجماع الدولي على كلّ جبهة، وتهدّد بشنّ الهجمات النووية، وغزو الدول ذات السيادة لأسباب سياسية. ندوب الـ (غراوند زيرو) سوف تندمل، والحزن على فقد الكثير من الأبرياء سوف يخفّ، غير أنّ الأذى الذي ألحقته الولايات المتحدة بنفسها سوف يدوم إلى الأبد.
وإذْ تحفر هذه الإمبراطورية قبرها بيدها، فإنها لا تتورع عن حفر المقابر للشعوب، بيدها أيضاً مباشرة؛ أو بالوقوف مكتوفة اليدين، ليس دون شراكة واشتراك، في كلّ حال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى