شوف تشوف

الافتتاحية

أوهام الإعلام الرقمي

بدأنا، أخيرا، نسمع بندوات وأيام دراسية تنعي الصحافة الورقية وتبشر بعهد الصحافة الرقمية، ولا يتوانى بعض «المبشرين الجدد» في مديح الصحافة الرقمية إلى حد اعتبار أنها أصبحت أقوى من الصحافة الورقية وأكثر تأثيرا، لكن واقع الحال يكشف عكس ذلك، حيث إن الصحافة الرقمية بالمغرب تقتات على ما تنتجه الصحافة الورقية، بالإضافة إلى الكوارث المهنية الكبرى التي ترتكبها بعض هذه الصحافة الرقمية، في ظل الفوضى التي يعرفها القطاع، وغياب التنظيم والقانون الذي ينظم «المواقع» الإلكترونية.
هذه الحقيقة لا ينكرها أحد، فالكل يعرف أن الصحافة الرقمية بالمغرب تعيش في مجملها على ما تنتجه الصحافة الورقية، ولأن الرقمي سريع ولا ينتظر اكتشاف الصحف الورقية في الغد، فإنه يسلخ أخبارها مساء بمجرد خروجها من المطبعة ويظهر بمظهر صاحب السبق، دون الإشارة للمصدر طبعا. ولذلك، فبدل إقامة حفلات لجلد الصحافة الورقية والحكم عليها بالموت، يجب تكثيف الجهود لوضع حد للفوضى التي يعرفها قطاع الصحافة الرقمية، بإصدار القوانين اللازمة لذلك، والكل يعرف أن العشرات من المواقع الإلكترونية لا أحد يعرف المسؤول عنها، ولا تتوفر على تراخيص قانونية، لازالت تشتغل إلى اليوم.
الصحافة الورقية تعاني في كل مكان من العالم، وليس في المغرب فقط، لكنها باقية  مثلما التلفزيون باق ولن تهزمه المنصات الرقمية، ببساطة لأن الناس يثقون أكثر في المكتوب الورقي ويثقون بالتلفزيون، وقد لاحظنا أخيرا حجم البشاعة والتفاهة المنتشرة في العالم الرقمي المليء بالإشاعات، ولا مصداقية لأغلب منصاته التي تظهر وتختفي بظهور الممولين واختفائهم.
لذلك، فإن الصحافة الورقية لا تحتاج ندوات للطم الخدود وشق الجيوب والبكاء والعويل على حالها، بل تحتاج دعما حقيقيا من الدولة غير تلك الصدقة السنوية التي تصرفها لها كدعم، كما تحتاج إلى الحماية القانونية، وذلك بإخراج القانون المعروض على أنظار الأمانة العامة للحكومة، المتعلق بحقوق المؤلف والحقوق المجاورة، الذي وضعه وزير الاتصال السابق، لأن هذا القانون سيسري على جميع المصنفات الأدبية والصحفية المعبر عنها كتابة. ويخول القانون للمؤلف الحق المطلق في القيام أو منع أو الترخيص بإعادة نشر واستنساخ المقالات الصحفية بأي طريقة كانت وبأي شكل كان، دائم أو مؤقت بما فيه التوثيق المؤقت بوسيلة إلكترونية، والترجمة، وإعداد اقتباسات أو تعديلات أو تحويلات أخرى لمصنفه. ويمنح القانون الحق للناشرين بالمطالبة بتعويضات مادية عن استغلال مواد صحفية من طرف المواقع الإلكترونية، ويمنح للصحفيين وناشري المطبوعات الصحفية الحقوق المنصوص عليها في القانون عند الاستغلال الرقمي لمنشوراتهم الصحفية.
إن الخطير في نعي الصحافة الورقية والتهليل للرقمي هو دفع المعلنين للتوقف عن نشر إعلاناتهم في الصحافة الورقية وتوجيه ميزانيات الإشهار نحو شركات الإعلان الرقمي، الذي، بالمناسبة، تهيمن عليه وتحتكره شركة واحدة، وهناك مغالطة يتم ترويجها في ما يخص الجرائد الورقية، على الأقل الجرائد الثلاث الأولى، والتي توجد «الأخبار» في مقدمتها، وهي أن البعض يريد إيهام الناس، وخصوصا المعلنين، أن مقروئيتها تراجعت، وهذه مغالطة كبيرة، لأن ما تراجع هو شراء الجرائد أما مقروئيتها فلازالت حاضرة، خصوصا إذا عرفنا أن أغلب المقاهي، وهي تعد بعشرات الآلاف، تقتني على الأقل الجرائد الثلاث الأولى، وتضعها رهن إشارة زبنائها طيلة اليوم، مما يعني أن النسخة الواحدة من الجريدة يتعاقب على قراءتها عشرات الزبناء ، هذا دون الحديث عن الإدارات العمومية التي لديها اشتراكات سنوية في الجرائد الورقية وتضعها رهن إشارة موظفيها ومدرائها، الذين بدورهم يحملونها معهم إلى البيت مما يوسع من دائرة القرّاء الذين تصلهم الجريدة.
ولهذا ستبقى للصحف الورقية والقنوات التلفزيونية الجادة مكانتها ومصداقيتها في مواجهة الفوضى والعبث والتفاهة التي تضرب الجسم الإعلامي وتتسبب في كارثة وطنية هي تبليد الحس ونشر التفاهة وتسييد الإشاعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى