شوف تشوف

الرأي

أُفٌولُ المُثَقَّف

عبر تاريخ العقل الانساني، و حتى قبل بدء التدوين حضر مفهوم الصراع بكل تجلياته بين الأفراد كما الجماعات الإنسانية، اختلفت مبرراته و أسبابه و أشكاله، لتتمظهر بين العنف المقدس و العنف المؤسَّس و بلغة الأستاذ المهدي المنجرة من الاستعمار العسكري إلى الاستعمار الثقافي أو “القوة الهادئة” « soft power » فانتقل العقل المدبِّر أو السياسي -على اعتبار السياسة فن تدبير الجماعة- من مراحل إعمال القوة و العنف في حدود أواخر القرن الحالي إلى مرحلة الصراع الفكري الذي تحدث عنه المفكر “مالك بن نبي” و الذي أسهب عنه في كتاب خاص.
إثارتنا لهذا الموضوع لم تأت رغبة منا في اجترار معرفة أكاديمية صرفة، و إنما جاء نتيجة تفاعلات ولَّدتها صيرورة من الأحداث ارتبط بعضها بوثوقية ما، فكما أن السلوك الإنساني يتأرجح بين اللذة و العنف، فإن المعرفة التي تواترتها البشرية صارت تتكرر بشكل ما في قوالب كونية تحمل نفس المؤشرات مهما تباعدت زمنيا و جغرافيا. هكذا هي لعبة القدر، أحيانا قد تتحقق السعادة من خلال الاوعي المبرَّر و أحيانا أخرى قد نعيش سكيزوفرينيا بمحض إرادتنا. تتناسل الأدلَّة على محدودية العقل الإنساني الذي يعود ليطفو من جديد في علاقة جدلية بين تحقيق الذات و ضرورة وجود الآخر. و باعتبار هذا الآخر ضرورة يبقى الوعي بوجود صراع هو أول خطوة في الطريق الصحيح.
يعمل السياسي (المثقف) هنا على ممارسة أبشع سلطة لديه ألا و هي السلطة المعرفية، فباعتبارنا ننتمي لشعوب المتوسط الإسلامي فإننا نتأثر بالخطاب المعرفي الذي اقتحم جيناتنا المرهفة بوعظ الفقهاء و الشيوخ. لنصنع لأنفسنا عباءة نحتمي بها كلما دعت الضرورة إلى ذلك.
تأتي العولمة في مرحلة ما و تتراجع هيمنة الفقيه، يندحر الجلباب و تعلو صورة المثقف الانتهازي، الذي يضبط إيقاعات صوته حسب مصالحه، فتَحِن نبرته تارة و تقسو أخرى، و ها هو ذا صديقنا و أستاذنا و محاضرنا المثقف يسعى دون كدٍّ أو ملل لخلخلة شجرة المعرفة، علَّها تجود عليه بقليل من الثمار تفيده في مشواره الشيطاني.
من أهم ما جاء في المباحث الكبرى نجد القيم، و مما حبلت به القيم نجد السعادة، الأخلاق، الخير و لم تحبل بالسياسة، و لم تعتبرها فضيلة من الفضائل ، و من روادها “ماكيافيلي” الذي أحرجها بمفردات الغاية و الوسيلة و الذئاب و غيرها، أما “حنا أرنت” فقد كتبت “بأن العنف يتولد جوهريا مع السياسة”.
فكما كان حكمنا قاسيا على أسلمة السياسة، و اعتبار الدين مطية طيعة كل مجادل فيه يجد أمامه فتاوى جاهزة تقذف به إلى الهاوية، فإن تقديس المثقف لن ينحو إلى غير ذلك، لأن أول بند في ميثاق السياسة مُعَنْون بالخيانة، و ثانيه الوساخة، و ثالثه النذالة و رابعه البغاء السياسي، فبين باحث عن الذات و آخر ناكر للجميل تختلف المواقف و الرؤى و يكون ابن الفراش البار هو من اجتهد و أضفى مكره الخاص على هذه البنود. لكنه يكاد ينسى أنه سينحني دوما لقدر التاريخ الذي ركن مزبلته على مقربة من بوابة الحزب تنتظره متى فرغ و انتهى. مما لا يدع مجالا للشك أن هذا الأمر مسألة وقت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى