شوف تشوف

إلى أين نسير؟

الجميع تابع الهمجية التي تصرف بها أعضاء الإلتراس في الحسيمة، وقبلها في شوارع طنجة والدار البيضاء ومدن أخرى.
ولذلك فالفشل الكبير اليوم في المغرب ليس هو فشل التعليم بل فشل التربية، فأشياء مثل احترام الآخر وعدم الاعتداء على ممتلكاته، والأدب في التعامل، وعدم أخذ ما ليس لك، وتجنب الغش والكذب وقلة الذوق أشياء يتعلمها الطفل في البيت، والمشكلة أن كثيرا من الآباء يهملون هذه المهمة معتقدين أن أبناءهم سوف يتعلمونها في المدرسة وهذا خطأ قاتل، فالتربية تعطى في البيت أما المدرسة فمكان لتلقي المعارف العلمية والأدبية والتقنية فقط.
وأستطيع أن أقول بأن الأزمة الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي نعيشها كمغاربة اليوم مصدرها النقص الحاد في مادة التربية أكثر من أي شيء آخر.
هناك، إذن، ظاهرة جديدة وعنيفة تجتاح الفضاءات العامة بالمغرب تحتاج إلى وقفة لتحليل أسبابها. فليست هناك دولة في العالم تضع قبل كل مباراة في كرة القدم مئات حراس الأمن أمام المحلات التجارية تحسبا لخروج الجمهور مثل ثور هائج وتدميره لكل شيء في طريقه. ليس هناك جمهور كرة في العالم يدمن تحطيم حافلات النقل العمومي بعد كل مباراة سواء ربح فريقه أو خسر المباراة، هذا العنف والهمجية المجانية يحتاجان إلى علاج مستعجل وفعال، حتى لا يتحول من عنف مناسباتي إلى عنف بنيوي قائم ومتأصل.
أعتقد أن السلوك العدواني الذي تكشف عنه هذه الطبقة من الجمهور، ليس سوى تعبير عن الانتقام والكراهية والحقد تجاه الطبقات الاجتماعية الأخرى التي تعيش، بدرجة أقل، ضغط الأزمة الاقتصادية التي تمسك بخناق ثلاثة أرباع الشعب المغربي.
فهؤلاء الصاعدون من الأحياء العشوائية التي هندسها سماسرة الانتخابات، وهؤلاء الزاحفون مشيا على الأقدام من مداشر وقرى الرباط وسلا وما جاورهما، يأتون إلى وسط المدينة للتعبير عن وجودهم، عن غضبهم الدفين، كأنهم يريدون أن يعلم الجميع بأنهم موجودون أيضا ولديهم صوت يريدون إيصاله.
ولسوء الحظ، فرسائل هؤلاء الشباب الفاقدين لكل بوصلة، والناقمين على البلاد بشوارعها ومصابيح نورها وزجاج حافلاتها وقطاراتها وواجهات محلاتها التجارية البراقة المحرومين من ارتيادها، وواجهات بنوكها حيث تودع أموال يسيل لها لعابهم يوميا، تتحول إلى هجوم بدائي على مظاهر هذه الحياة العصرية التي يرون بريقها في إشهارات التلفزيون ويجاورونها في الواقع دون أن يحلموا بامتلاكها ذات يوم. لذلك فالحل، في نظرهم، هو تدميرها انتقاما لطبقتهم المحرومة وانتقاما من الطبقات الأخرى التي تعيش في هذا «النعيم» و«الرخاء» الاجتماعي.
إن هؤلاء الشباب الذين طوروا نزعة تدميرية تجاه أنفسهم، «تشراط اللحم» بشفرات الحلاقة، وتجاه ممتلكات الدولة والمواطنين، هم في نهاية المطاف نتاج سياسة إدارة محلية فشلت في ضمان حظوظ متساوية لكل المواطنين لتحقيق ذواتهم، فهناك من جهة المدينة بأحيائها المرتبة والهادئة نسبيا، وهناك الهوامش المظلمة والفقيرة حيث لا لغة تعلو على لغة الخناجر والسيوف والمياه الحارقة.
ولذلك تبقى المعطيات التي كشف عنها تقرير للمندوبية السامية للتخطيط بخصوص الشباب المغربي والشغل خطيرة للغاية، فأكثر من مليون ونصف مليون شاب تتراوح أعمارهم ما بين 15 و24 سنة بدون تعليم وبدون شغل، أي أنهم عالة على أسرهم وعلى المجتمع، ونظرا لكونهم ينتمون في غالبيتهم الساحقة للطبقات الهشة، فإن لنا أن نفهم بوضوح، بعيدا عن إنشائيات البرامج الحكومية السابقة، مصدر انتشار مظاهر التشرميل والشغب الجماعي، فضلا عن تنامي استقطاب العصابات والمنظمات الإرهابية للشباب المغربي.
فإذا استحضرنا معطيات هذا التقرير، وقرأناها بنتائج الدراسة التي قامت بها «الرابطة المحمدية للعلماء» الصادرة مؤخرا، والتي تتحدث بوضوح عن السهولة التي تجدها تنظيمات الإرهاب العالمي في استقطاب الشباب المغربي، بسبب السطحية الملغومة التي تقدم بها المفاهيم المرتبطة بالجهاد والتكفير، فإننا نستنتج خطورة الوضع.
فالشاب غير المتعلم والذي لا يملك بين يديه مهنة أو حرفة، وليس له دخل يعيش به، هو شاب بدون أمل، لذلك سيسارع إلى بناء أمل وهمي إما عبر المخدرات أو عبر أفكار التطرف التي توهمه بآمال أخروية تتحقق بقتل الآخرين، «الكفار» في نظره، أي أنه يصبح لقمة سائغة للانتحار بكل أشكاله.
إن كل شاب فشلنا كأسرة وكحكومة وكدولة في تعليمه أو تكوينه، يعني أننا سنكون مضطرين لتوظيف شرطة لمطاردته وسجانين لحراسته، ولنا أن نتصور التكلفة. فحسب آخر إحصاء قام به المجلس الأعلى للتعليم، في تقييمه لفترة عشرية الإصلاح فإن تكلفة التلميذ المغربي لا تتعدى 12 ألف درهم في السنة، إذن لنا أن نتصور تكلفة هذا التلميذ عندما ينقطع عن الدراسة ويصبح عالة على مجتمعه، بل عندما يصبح مصدر خطر محدق به، إذ سنضطر لرفع ميزانية الأجهزة الأمنية لمراقبة سلوكه، الواقعي والافتراضي، كما أن الحياة الاعتيادية للناس ستتأثر بسبب تجنبهم المرور أو الجلوس في أماكن عامة خوفا من السرقة أو الاغتصاب، مما يعني أن الخسارة هنا تصبح مضاعفة عشرات المرات.
أن يكون لدينا مليون ونصف مليون شاب بدون تعليم أو شغل فإن هذا يدل بوضوح على أن المغرب أضحى معملا كبيرا لإنتاج الانتحاريين، الذين لا يجدون مشكلة في تخريب ممتلكات الآخرين وتهديد سلامتهم الجسدية وترويعهم إما بسبب فكرة متطرفة أو بسبب مخدر، والمتهم هنا في هذه الحلقة هو الأسرة في الدرجة الأولى والحكومة في الدرجة الثانية.
إن التكلفة الاقتصادية والاجتماعية للاستثمار في تعليم وتكوين الشباب سلاح ذو حدين، إما أن ندفع 12 ألف درهم سنويا في تعليم أو تكوين شاب ليحصل على المؤهلات التي تمكنه من الحصول على شغل، أو سنضطر لأن ندفع هذا المبلغ مضاعفا عشرات المرات فضلا عن المشكلات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية التي نسقط فيها جراء تهاوننا مع تعليم وتكوين الشباب، وهذه المعادلة التي مازال واضعو السياسات الاجتماعية والتعليمية ببلادنا لم ينتبهوا إليها حتى الآن، والتي انتبه إليها كثيرون في دول أخرى، ممن يستثمرون في الرياضة والتربية البدنية مثلا، كالولايات المتحدة، والتي أدمجتها في نظامها التعليمي بكل مستوياته، ففي مقابل مائة دولار توفرها الولايات لكل مواطن ليتمكن من ممارسة نشاط رياضي في صالات رياضية أو أندية وفضاءات وملاعب هناك الآلاف من الدولارات تربح في التغطيات الصحية عن كل فرد، لذلك لا نستغرب أن نجد آلاف الطلاب الذين يتمكنون من الحصول على منح في جامعات عالمية كبرى لكونهم أبطالا في رياضات مختلفة، وطبعا لن ننسى هنا الريادة العالمية لمنتخباتها الوطنية في مختلف هذه الرياضات.
أما عندنا فالمدارس بدون فضاءات للعب، إذ كلها أقسام مكتظة، والمبكي هو أن عدد الساعات الرسمية التي تخصص للرياضة في التعليم الابتدائي مثلا، أي في المرحلة العمرية التي يكون فيها الأطفال في عز حركيتهم الجسدية، لا تتعدى 20 ساعة في السنة، وغالبا ما يتم تجنبها، وإذا ما غامر أستاذ معين وطبقها فإنه غالبا ما يعطي كرة واحدة لقسم مكون من 50 تلميذا، يلعبون دون تنظيم بملابسهم العادية.
تجربة أخرى لها علاقة بالشباب تستحق أن نذكرها هنا، ويتعلق الأمر بإيسلندا، فهذه الدولة التي كانت تعاني قبل 20 سنة من الآن من مشكلات كبيرة بسبب إدمان الشباب على الكحول بنسبة تتجاوز النصف، مع ما يرافق ذلك من مشكلات أمنية كبرى، حيث أضحى المواطنون يتجنبون الخروج للأماكن العامة، خاصة في عطلة نهاية الأسبوع والعطل الرسمية، تجنبا للاحتكاكات التي تقع لهم مع الشباب السكارى والمخدرين، أضحت الآن دولة نموذجية نتجت عن برامج مضبوطة تبنتها الحكومات هناك، فالشباب الإيسلندي حاليا بات يمارس العديد من الأنشطة الموازية للدراسة، في النوادي المخصصة للموسيقى والرياضة والرقص، وقضاء الوقت في التنزه العائلي رفقة الآباء، حيث تتواجد مئات الصالات متخصصة في الرياضات المختلفة في المدن والقرى، فضلا عن حلبات مخصصة لألعاب القوى وصالات لتعلم الموسيقى والرقص، وبالموازاة مع ذلك تم خلق بنيات صحية حديثة لاستقبال المدمنين وعلاجهم، وتتحمل الدولة كافة تكاليف علاج المدمنين، والنتيجة من كل هذا هي أن هذه الدولة الصغيرة أصبحت على رأس البلدان الأوربية التي ينعم فيها الشباب بحياة صحية. عندنا، وبالعودة لتقرير المندوبية السامية للتخطيط، فمليون ونصف المليون الذين ليست لهم شهادات تعليمية أو مهارات حرفية هم زبناء فوق العادة لتجار المخدرات، إما المخدرات المادية التي نعرفها، أو المخدرات الفكرية، وجميع هذه الطرق تؤدي إما إلى السجن أو إلى القبر، لذلك لا نستغرب أن أغلب الذين يتم استقطابهم في من طرف التنظيمات الإرهابية هم مدمنون سابقون، فكما سهل عليهم السقوط في براثن الإدمان، فإنهم انتقلوا إلى التعاطي لمخدرات فكرية أخرى تكفر المجتمع والحياة وتنشد الموت والقتل، سيما إذا استحضرنا انعدام مراكز لعلاج الإدمان، فالمراكز الموجودة هي صورية تماما، لا تتعدى الخدمات التي تقدمها بضعة أدوية تساعد المدمن لكن دون متابعة نفسية حقيقية، والتي تعد العنصر الرئيسي في العلاج.
والكارثة الحقيقية عندنا هي أن 3 ملايين طفل انقطعوا عن الدراسة في السنوات العشر الماضية، وعندما يتم استقطابهم مرة أخرى للعودة إلى الفصول الدراسية، عبر ما يسمى بالتربية غير النظامية، فإن 64 في المائة منهم يعودون للشارع ولا يتوفقون في إتمام دراستهم.
وهؤلاء الأطفال هم الذين يتحولون إلى جانحين يتربصون في الشارع بالمواطنين لسلبهم ممتلكاتهم، وهؤلاء هم الذين يحدثون الشغب في الملاعب، وهم الذين تتربص بهم التنظيمات الإرهابية لتقنعهم بأن هذا المجتمع الذي أهمل تعليمهم وتشغيلهم هو في الحقيقة مجتمع «كافر» يتوجب تدميره.
نعود ونقول إنه من المؤسف أن نجد البرامج التعليمية والتكوينية الموجهة للشباب غالبا ما تكون في أدنى سلم الأولويات بالنسبة للحكومة والمجالس المنتخبة، وعندما يكون برنامج شبابي معين غالبا ما يتم تسييسه وبالتالي إفشاله، مع أن طريق الأمن والتنمية والتقدم يمران عبر الشباب بالضرورة.
إننا أمام وضع كارثي، نفشل في وقاية الشباب بالتعليم الجيد والتكوين المفيد للحياة، وعندما يسقطون ضحايا أفكار الموت ومخدرات الانتحار نفشل أيضا في علاجهم، وكل ما نفلح في إنتاجه هو تقارير تقرع في كل مرة أجراس الإنذار دون جدوى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى