الرئيسيةخاص

الإصلاح الشامل حسب عبد الله العروي

إعداد : النعمان اليعلاوي

عرض المفكر والمؤرخ المغربي، عبد الله العروي، عصارة أفكاره ونظرياته الاجتماعية والتاريخية حول عدد من القضايا والإشكالات المرتبطة بالواقع اليومي والمتعلقة بمفاهيم الدولة والديموقراطية والحداثة والأمية وأزمة الثقافة والترجمة والكتاب ونقاش اللغة العامية والفصحى، حيث أجاب العروي على ما قال إنها اعتراضات يمكن أن تقابل بها تصوراته في عدد من الأفكار التي عبر عنها في كتبه المنشورة، مبرزا في المحاضرة الافتتاحية لـ”كرسي عبد الله العروي للترجمة والتأويل” بكلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط، أن الكثير من الأفكار التي عبر عنها قد تكون محل اعتراضات مهمة وتستوجب البيان.
وأشار العروي إلى أن إحداث كرسي فكري باسمه هو تكريم له معتبرا أن كثيرا من الانتقادات توجه له بخصوص أفكاره أنها خلافية ولم تكن محل توافق الجميع، معتبرا أنه كان يحرص خلال عمله في التعليم العالي على الفصل بين دوره في تقديم مناهج البحث وبين تقديم النقد الإيديولوجي باعتباره مفكرا، وأنه لم يعرض أبدا أيا مما جاء في الإيديولوجيا العربية المعاصرة أو في سلسلة مفاهيم، بل إن كتبه في هذا الجانب قد أنتجها في الخارج وقد نوقشت هناك أكثر مما نوقشت في المغرب، مبينا أن باقي الكتابات التي ترتبط بدوره كمؤرخ، لقيت استحسانا من طرف الأغلبية من القراء ونوقشت بشكل علمي.
وأكد العروي أن هناك إشكالات قدم فيها قراءات وتحليلات ونظريات، وهي اجتهادات ترتبط بالتاريخ، والتطور والجمود، والعقلانية واللاعقلانية والاستقلال والتبعية، واللغة واللهجة، معتبرا أن هذه المفاهيم مرتبطة بمشكلات معينة، داعيا إلى إعادة تعريف المفاهيم وتجديد الاقتراحات البنيوية، ومشيرا إلى أنه عندما ناقش العديد من المفاهيم ارتكز على توجهات راهنية، وهو الأمر، حسب العروي، الذي يجعل السؤال مشروعا حول راهنية هذه المفاهيم.

 العروي.. ابن خلدون والتدوين
أشار المفكر عبد الله العروي إلى التعرضات التي تواجه تصوراته حول فكر المؤرخ العربي ابن خلدون، معتبرا أنه أولى الأهمية الكبيرة في كتابته لفكر هذا الأخير، الذي اعتبر أنه  كان له دور كبير في إيلاء الأهمية الكبرى لعملية التدوين التي ترتكز على نقل الثقافة الشفهية إلى الثقافة المكتوبة، وبالتالي فابن خلدون قد شيد، حسب العروي، صرح العمران على هذه النقطة، وعزا تأخر العرب إلى عدم انتباههم إلى اختراع اوروبا للطباعة، مضيفا أن الآسيويين كانوا مهيئين للحداثة باختراعهم لنوع من النسخ قبل الأوربيين، وهي النقطة التي قال العروي إنها تنتظر الفصل فيها من طرف المؤرخين.
وأشار العروي إلى أن «الثروة المعلوماتية قد تكون لاحقة للثروة الطباعية، غير أنها قد قضت عليها»، مبينا أنه أثنى على واقعية وبراغماتية ابن خلدون مقارنة بطوباوية الفقهاء والمتصوفة، بينما «في عالم اليوم ماذا يعني الواقع؟ أهو المحسوس وما يُرى ويُلمس؟ فإذا بنا نرى ونسمع ما نعلم أنه غير موجود ماديا»، وزاد: «لا نتوفر إلى حد الساعة على حاسَّة تمكِّننا من التّمييز بين المعقول والموهوم (…) فما أهمية الواقعية إذا؟».

 الأمية الرقمية أسوأ من الحرفية
من جانب آخر أشار العروي إلى أن العالم العربي مازال يعاني الأمية الرقمية، معتبرا أن «الأمية الرقمية قد تكون أسوأ من الأمية الحرفية»، متسائلا إن كان «محو الأولى يعفي من محو الثانية، ومحو الثانية شرطا لمحو الأولى»، قبل أن يجزم بأن الجواب ليس سهلا ولا هينا ولا تكفي فيه استشارة متخصصين بعينهم، مضيفا في حديثه عن الواقع الافتراضي أن السؤال المطروح هو «هل هذا الواقع الذي يغشانا اليوم ويذهلنا هو من نتائج العلم العقلاني التجريبي أو هو من عمل سحرة فرعون المتوهم؟ هل هو فعلا غير معقول؟ وهل المجتمع غير الحداثي يستطيع أن يتصور واقعا افتراضيا؟»، ليعلق العروي بأن المجتمع غير الحداثي أنشأ في الماضي وألف تلقائيا قصص السحر والمغامرات، ورسم عوالم الغرائب والعجائب، «إلا أنه تحت ظل الحداثة، لم يبدع قصص الخيال العلمي».
وأشار العروي إلى أن الأمم «لا تتوفر إلى حد الساعة على حاسة تمكننا من التمييز التلقائي بين المعقول والموهوم، بل في حالات كثيرة أصبحنا نفضل الوهم ونتعلق به»، ليطرح سؤال «ما جدوى الواقعية التي ما فتئ يدعو إليها في الفكر والسلوك والتعبير والإبداع؟»، مؤكدا على أن اجتهاداته «ترتبط بالتاريخ وبالتطور والجمود، وبالتقدم والتخلف، وبالاستمرارية والقطيعة، وبالعقلانية واللاعقلانية، وبالاستقلال والتبعية، وباللغة واللهجة، وبالدولة والفوضى، وبالثقافة والفلكلور».

 الدولة واللغة والإشكالات الراهنة
يرى العروي أن الدولة القومية لم تعد مقنعة، مما يفضي إلى البحث عن البديل «وهو اللادولة أو الدولة الأممية التي تخيلها فلاسفة القرن ال18 الأوروبيون؟»، وقال «لا خلاف أن إشكالات اليوم ليست هي إشكالات وسط القرن الماضي وهذه نقطة يتعين أن تناقش بجد ومن عدة أوجه»، مسترسلا أن «الإشكالات الجديدة التي تواجه العالم اليوم تولدت في إطار معروف هو إطار الدولة المدنية والإنتاج الصناعي والعقلانية الواقعية»، و«لا يتصور أن تفهم وتدرس وتعالج في إطار عتيق وإطار اللادولة والعمران البدوي والعلوم الغيبية بعبارة ابن خلدون».
وبخصوص «كرسي عبد الله العروي للترجمة والتأويل» قال إن مقصد هذا الكرسي «ليس نشر إيديولوجية، بل تدارس مشاكل راهنة ومتجددة»، موضّحا «طلبة هذه الجامعة التي درّسَت فيها ثلاثة عقود ونصف يعلمون أنني كنت دائما حريصا في التّفريق بين عملي كموظف في خدمة الدولة والمجتمع كأستاذ لمادة التاريخ وتوضيح مناهج البحث والأحداث، وبين عملي كمفكر يتعاطى للنَّقد الأيديولوجي، كما يتعاطى غيري لقرض الشعر أو حل ألغاز الرياضيات»، وأضاف أن «ما سيمثله الكرسي أساسا، من مجال للتباحث والتدارس، ومناقشة مفاهيم وإشكالات ارتبطت باسمه في السنوات الأخيرة؛ وما سيشكله بوصفه فضاء يوفر المراجع والوثائق والمستندات، لتحفيز وتقييم نظريات تقدمت بها في ظروفها، ولأنه لا تفكير جديا وعميقا دون تأويل ودون ترجمة، أحبذ أن يعطى للكرسي مسمى «كرسي الترجمة والتأويل»».

 الترجمة وأزمة الكتاب والنقل
باعتباره مارس الترجمة ويعرف مكامنها ومزالقها، توقف المفكر العروي في محاضرته عند أهمية النقل والترجمة، إذ أكد أن «المترجم حريص على عدم إقحام ذاته في ما يترجم، ويظل وفيا، قدر المستطاع، لأسلوب المؤلف ويؤدي المعنى كما جاء في النص»، وتابع «خطؤنا الكبير في الماضي والحاضر وما يدعوني إلى بعض التشاؤم، هو الظن أن النقل يتم مرة واحدة، في حين أن الترجمة، لكي تكون مثمرة، عملية مستمرة، حيث لا تفكير جدي وعميق دون تأويل ترجمة»، مشيرا، في ذات السياق، إلى أنه «لا يمر عقد في الغرب دون أن تصدر ترجمة جديدة لأرسطو أو لغيره من كبار المفكرين القدامى، بل تشيد فلسفات جديدة على إثر إعادة ترجمة مفردة أو مجموعة من المفردات».
وتطرق العروي إلى الكتاب الذي يرى أنه «يمر بأزمة خانقة»، وقال «كنت دائما ولا أزال أدعو إلى إصلاح شامل في المجال التربوي، خاصة في مجال اللغة، لكن النقاش حادَ عن طريقه السليم، داعيا للعودة إلى الأصل، وأن تكون الترجمة عملية متجددة للتفكير والتأمل».
وتحدث العروي عن الدارجة، وقال إنه مصطلح مترجم من الفرنسية «courant»، حيث كان يميز المستعمر بين اللغة العربية الفصحى واللغة المتداولة، ووجه العروي رسالة لمن يناقشون في موضوع الدارجة بالمغرب، وقال «لو اجتهد من يتكلم في هذا الموضوع الحساس وبحث لاتضح له أنه وجد في الماضي وحاليا ومستقبلا فرق بين المكتوب المدون والمنطوق المتشعب»، مضيفا أن لكل واحد من الاثنين مقامه ومجاله «هذا ما يعرفه جيدا المتحدثون بالإنجليزية، يقبلونه ويتعايشون معه، ويتعامى عنه غيرهم لأسباب خاصة بهم».

جامعة محمد الخامس تكرم العروي بكرسي فكري
أعلنت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط عن إطلاق «كرسي عبد الله العروي للترجمة والتأويل»، وقد أعطى جمال الدّين الهاني، عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرّباط، انطلاقة الكرسي في نشاط نظّمته جامعة محمد الخامس بالرباط ومعهد العالم العربي بباريس، الأربعاء الماضي بكلية الآداب، وافتُتِحَ هذا الكرسي بمحاضرة المفكر العروي، وقال الهاني، إن إنشاءه ليس اعترافا فقط بحق المثقفين على أوطانهم، بل فيه تجسيد لـ«الاعتراف»، معبرا عن طموحه في أن يمثل هذا الكرسي «منارا فكريا» للمطارحات الفلسفية وامتدادا لمدرسة العروي، قصد تحويل إشكالياتها إلى قضايا بحثية في الدراسات العليا والبحث العلمي عموما.
وأكد الهاني، في كلمته بالحفل الافتتاحي لكرسي عبد الله العروي، أن صاحب الكرسي «ليس أستاذا جامعيا أو باحثا أو منظرا فقط، بل هو لساني ومؤرخ وأديب أيضا، ومفكر بمعنى الكلمة قبل كل شيء»، مضيفا أنه «ليست هذه مجاملة، بل هذا ما يفرضه الصدق الفكري»، مذكرا بأن العروي قد «طبع المغرب المعاصر بإنتاجه العلمي الحداثي»، وأن له «مدرسة فكرية بكل المقاييس العلمية، أنتجت باحثين وأطرا من المستوى الرفيع، وتؤرخ لانخراط المثقفين المغاربة وغيرهم في الزمن العلمي بتدريس مؤلفاته وترجمتها».
ووصف جمال الدين الهاني هذا الافتتاح بـ«الحدث الثقافي الهام»، ونعت صاحب الكرسي بـ«رمز الشخصية المغربية»، و«عنصر التميز في العطاء الفكري»، وبكونه «قامة شامخة يحق الافتخار بها»، معلّقا الأمل على «كرسي عبد الله العروي» في استقطاب كافّة المشتغلين، والجيل الجديد الذي يرفع تحدي الخلف، لاقتضاء تجاوز التلميذ معلمه، مع تأكيده في جزء من كلمته على أن العروي قد وضع «معايير ومقاييس للجودة يصعب تجاوزها».
بدوره، قال معجب الزهراني، المدير العام لمعهد العالم العربي بباريس، إن هذا الكرسي قد أقيم من أجل «تكريم أستاذنا جميعا»، ووضع أملا كبيرا في رئيس جامعة محمد الخامس بالرباط لـ«يدعم هذا الكرسي بكل ما يستطيع»، مضيفا أن معهد العالم العربي سيدعم الكرسي بدوره بما يستطيع، معبرا عن سعادته بامتلاء القاعة بمحبي عبد الله العروي وتلاميذه ومحبي فكره وخطابه وأفقه «الذي هو أفق الحداثة والمستقبل»، متذكرا فعالية «تكريم شخصية رمزية كبيرة» نظمت في إطار «كرسي العالم العربي»، بدأت بإدغار موران، ثم عبد الله العروي الذي تتوقف عنده لأنه «كان بمثابة التحدي الذي لم نستطع تجاوزه بعد ذلك».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى