الرئيسيةخاص

البت في اختلاسات مالية ببلدية جرف الملحة كشفها قضاة جطو

كريم أمزيان
شكل إعلان انطلاقة العمل بالمجالس الجهوية للحسابات، في أبريل 2004، في كل من مدن الرباط والدار البيضاء وطنجة وفاس ومراكش وسطات وأكادير ووجدة والعيون، قفزة نوعية في مجال «الحكامة المالية»، التي «أسقطت» رؤوساً عدة، من المتهمين بـ «التلاعب» بالمال العام والعبث به، والذي يصل أحياناً تبديده، وفي أحايين أخرى اختلاسه.
فقد كانت انطلاقة، باشر من خلالها رؤساء المجالس عقد لقاءات مع منتخبين محليين وقوى سياسية في الجهات، من أجل الشروع في القيام بمهامهم التي لا تنحصر فقط في افتحاص المالية العمومية والبحث عن الأخطاء والمعاقبة عليها، لكنها تتجاوز ذلك إلى السهر على حسن التصرف في المالية العمومية، وفق طرق ومعايير تحترم الشفافية. فكانت بلدية جرف الملحة إحدى البلديات المستهدفة، التي تعرض «الأخبار» ملفها الذي راج أمام قسم جرائم الأموال، قبل أن تعجل وفاة متهم فيه، عن سن تناهز 67 سنة، أياماً قليلة قبل محاكمته من قبل الهيأة القضائية بغرفة الجنايات الاستئنافية، بمحكمة الاستئناف بالرباط، بطيه وإغلاقه نهائياً.
لم يكن المحضر المنجز من قبل درك المركز القضائي بسيدي قاسم في 18 غشت 2010، أول البحوث التي سيتم إجراؤها في هذا الملف، الذي تطور إلى جريمة مالية، بل إن افتحاص مالية بلدية جرف الملحة، بعد اشتباه تورط أعضاء فيها في اقتراف أخطاء وضلوعهم في خروقات واختلاسات، استناداً إلى تقرير المجلس الأعلى للحسابات بالرباط، بشأن اختفاء معدات من المخزن البلدي، في ظروف غامضة، دون اتخاذ رئيس الجماعة أي إجراء قانوني، والأمر بأداء حوالات ذات الأرقام 758/04 و110/06 و136/06 و404/06، والإشهاد على الخدمات التي تتضمنها، من قبل (ه.ب)، رئيس البلدية السابق، على الرغم من عدم تسلم الجماعة كل المعطيات المضمنة بتلك الفواتير، وقيام الرئيس الذي قبله (م.ل) المتوفى، من سنة 1997 إلى 2003، وهي المدة التي كان يتحمل فيها المسؤولية رئيساً للبلدية، بإصدار سندات طلب، والإشهاد على تسلم أشغال وتوريدات تحوم الشكوك حول إنجازها على أرض الواقع، على الرغم من عدم إصداره أوامر بالأداء في الموضوع، وذلك بالاعتراف بديون غير مستحقة، لفائدة حاملي تلك السندات، في غياب ما يقابلها من الخدمة المنجزة، ولجوء أولئك الأشخاص مباشرة بعد انتهاء ولايتهم على رفع دعاوى قضائية، انتهت مباشرة باستحقاق المبالغ المضمنة بالسندات المذكورة، على الرغم من إنكار الجماعة صحة الوثائق المدلى بها للمحكمة الإدارية، ونفيها إنجاز الأشغال أو التوريدات التي تتضمنها الوثائق المذكورة.
افتحاص يكشف التبديد والاختلاس
المعطيات التي انصب عليها البحث التمهيدي الذي أجراه محققو الشرطة القضائية التابعين لدرك المركز القضائي بسيدي قاسم، كانت قد نقلتها بالتدقيق رئيسة المجلس الجهوي للحسابات بالرباط، من خلال تقرير مفصل أحالته في الـ 08 يونيو 2010 على النيابة العامة بالمجلس نفسه، يتضمن أفعالاً من شأنها أن تشكل مخالفات ذات طابع جنائي، تم تسجيلها من قبل القضاة مبعوثي المجلس الجهوي الذي توجد على رأسه، إلى جرف الملحة، أثناء مراقبة تسيير الجماعة الحضرية، المتمثلة أساساً في اختفاء بعض التجهيزات، في ظروف ملتسبة جعلت الشكوك تحوم حولها، خصوصاً بعدما لم تصدر عن المسؤول الأول أي شكاية أو بحث في الأمر، من أجل فتح تحقيق بهدف معاينة الوقائع وتحديد المسؤوليات، إذ لم يجدوا وهم عاكفون يفتحصون ماليتها، من خلال سجلات ووثائق أمضوا مدة طويلة في الاطلاع عليها والبحث فيها، أي وثيقة تشير إلى ذلك.
ومن بين ما جعل عناصر الضابطة القضائية تركز بحثها مع متهمين بعينهم دون غيرهم، أن الأدوات المختفية تم التأكد من اختفائها من خلال محضر الجرد الشامل للأدوات والمعدات بمختلف المخازن التابعة للبلدية والمنجز بتاريخ  ماي 2007، تبين اختفاء 793.25 مترا من السياج الحديدي، 279 من الأعمدة الحديدية، فضلاً عن «موطو بومب» ودراجتين ناريتين بقيمة 261.632.00 درهما، دون تحديد أسباب وظروف اختفائها، بالإضافة إلى الإشهاد على إنجاز خدمات تتضمنها وثائق أمر بأداء حوالات، تم جردها بأرقامها، بالعودة إلى أرشيف البلدية، على الرغم من عدم تسلم الجماعة أي وثائق مضمنة بالفاتورات موضوع الحوالات المذكورة، التي لم تتسلمها الجماعة بشكل فعلي، خصوصاً أن قيمتها بلغت 118.020.00 درهما، وهي المعطيات التي تؤكدها إقرارات مسؤولي الجماعة ومحضر المعاينة الميدانية، التي أجراها قضاة المجلس الجهوي للحسابات بالرباط سنة 2007، أثناء مراقبة تسيير الجماعة الحضرية ذاتها، وخلال مراقبة إجراءات تنفيذ ميزانية الجماعة لسنة 2008.
بحث قضاة المجلس الجهوي للحسابات بالرباط، الذي عرى اختلالات بلدية جرف الملحة، جاء تفعيلاً لمهامه، فإضافة إلى اختصاصاته القضائية، فهو يعمل على مراقبة تسيير المرافق والأجهزة العمومية التي تدخل في دائرة اختصاصه، من أجل تقديره من حيث الكيف، والإدلاء، عند الاقتضاء، باقتراحات حول الوسائل الكفيلة بتحسين طرقه والزيادة في فعاليته ومردوديته، من خلال المستشارين الذين يعينهم رئيس الغرفة، والذين يقومون بمراقبة تسيير الأجهزة المدرجة في برنامج أشغال المجلس، إذ يخول لهم الحق في الاطلاع على كافة المستندات أو الوثائق المثبتة الكفيلة بتزويدهم بمعلومات حول تسيير هذه الأجهزة والاستماع إلى الأشخاص الذين يرون أن إفادتهم ضرورية، وهو تماماً ما قاموا به وهم يؤدون مهامهم في بلدية جرف الملحة، واكتشفوا ما سموه «اختلالات» خلال ولاية سابقة، كان خلالها (م.ل) يترأسها قيد حياته، متعلقة بتسجيلهم إصداره سندات طلب، والإشهاد على تسلم أشغال وتوريدات تحوم شكوك حول إنجازها على أرض الواقع، وذلك على الرغم من عدم إصدار رئيس الجماعة المذكور، أوامره بالأداء في الموضوع، إذ وقع بحسبهم على الوثائق المذكورة بالأرقام، يعترف من خلالها بديون غير مستحقة لفائدة حاملي السندات، وفي غياب ما يقابلها من الخدمة المنجزة، ما جعل الأشخاص الحاملين لتلك السندات، مباشرة بعد انتهاء ولاية الرئيس الذي مكنهم منها، يلجؤون إلى مقاضاة الجماعة التي حكمت المحكمة بأدائها المبالغ المضمنة في تلك السندات، على الرغم من تمسك محامي الجماعة بعدم صحة تلك المستندات التي وصل مجموع مبالغها 2.211.718.40 درهما، والتي تم الحكم بناءً عليها، بأدائها.

استدعاءات وإفادات كاشفة
لم تجد النيابة العامة، أمام هذه الوقائع والأحداث مدعمة الوثائق والمستندات، سوى أن تعطي أوامرها للشرطة القضائية وتصدر تعليماتها من أجل تعميق البحث مع المشتبه في تورطهم في هذا الملف، الذي يمتد لأزيد من عقد من الزمن، وبدأت تجري بحثها مع كل من يشتبه تورطه في الاختلالات التي نبه إليها قضاة المجلس الجهوي للحسابات بالرباط، بعضهم كان مايزال منتخباً حينئذ، والبعض الآخر غادر، ولم يعودوا يحملون الصفة ذاتها، بعدما أصيبوا بالخذلان من قبل الناخبين، أو قرروا قطع الصلة مع السياسة وكل ما قد يأتي منها، قبل أن يجدوا أنفسهم في ضيافة الدرك الملكي، بعدما توصلوا باستدعاءات مكتوبة في منازلهم، تطالبهم، بضرورة الالتحاق الفوري، بسرية الدرك «لأجل أمر يهمهم» دون أن يتم تحديده، على الرغم من أن رائحة البحث الذي يتم إجراؤه فاحت، وانتشرت في جماعة جرف الملحة الحضرية، وكثر الحديث عنه، ما جعل تخوفاتهم تكبر، خصوصاً أنه سبق لهم أن علموا بموضوع اختفاء بعض الآليات.
ففي الحادية عشرة والنصف صباحاً من يوم 18 غشت 2010، شرع ثلاثة ضباط للشرطة القضائية بمركز الدرك الملكي بسيدي قاسم، في تنفيذ ما جاء في إرسالية سرية تحمل رقم 189، توصلوا بها عبر «فاكس»، صادرة في 27 يوليوز 2010، وواردة عليهم من قبل الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالقنيطرة، مرفقة بتقرير محرر من قبل المجلس الجهوي للحسابات بالرباط، تحت إشراف النيابة العامة بالمجلس، ومؤرخة بتاريخ 30 يونيو 2010، متعلقة بالأفعال التي من شأنها أن تستوجب متابعة جنائية في حق المتهمين، فضلاً عن صورة شمسية من شهادة إدارية محررة من قبل رئيس المجلس البلدي لجرف الملحة، والتي تبين مجموعة من الأحكام الصادرة ضد البلدية، فضلاً عن عدد من الوثائق الإدارية، الصادرة من المحكمة الإدارية، والتي تهم الدعوى القضائية التي تخص المطالبة بالأداء من خلال مقال إداري مؤرخ في 05 يوليوز 2005 لفائدة مؤسسة «الكرافس» الكائن مقرها في المدينة ذاتها.
شرعوا في البحث التمهيدي تحت إشراف النيابة العامة، مع عدد من المتهمين وكل من لديه علاقة بالملف، ويمكنه أن يقدم فيه إفادات تسهم في تقدم البحث وترتيب المسؤوليات، قبل إحالتهم على الوكيل العام بمحكمة الاستئناف بالقنيطرة، والذي أحال بدوره كل من (ع.س.ب) و(ه.ب) و(م.ع) و(ع.س.ط) و(م.و) و(م.ل) و(إ.س) و(إ.م) و(م.ع) و(م.م) على قاضي التحقيق عزيز التفاحي بالغرفة الأولى، والذي أمر بوضع التسعة الأوائل تحت المراقبة القضائية منذ 10 مارس 2011، وإحالتهم على المحاكمة بعد تعيين أولى الجلسات المخصصة لذلك.

وفاة المتهم تعجل بطي الملف
لم تتأخر الهيأة القضائية المكلفة بقسم جرائم الأموال في غرفة الجنايات الابتدائية بمحكمة الاستئناف بالرباط،  في فتح الملف الوارد عليها من قبل غرفة التحقيق، والذي ينتظر المواطنون والناخبون رأي المحكمة فيه، بعدما عرى القضاة اختلالات مالية البلدية التي تسير شؤون مدينتهم، وجعلت عدداً من مسؤوليها يتابعون من أجل جناية «اختلاس وتبديد أموال عمومية بدون حق» طبقاً للفصل 241 من القانون الجنائي، في 30 يناير 2014، إذ توبع فيه خمسة متهمين فقط، من بينهم (م.ل) الذي ترأس البلدية خلال الولاية الممتدة بين 1997 و2003، في ملف عدد 2/2623/2014، تم إعلان حكم بات فيه ابتدائياً، بتاريخ 29 شتنبر 2014، قبل أن يتقرر استئناف الملف، الذي أضحى يحمل رقم 3/2625/2015، أمام الجنايات الاستئنافية،  والذي طوته الهيأة القضائية بغرفة الجنايات الاستئنافية، بقسم جرائم الأموال بمحكمة الاستئناف بالرباط، يوم الثلاثاء الماضي، والذي كان يتابع فيه متهم مسمى قيد حياته (م.ل)، وذلك بعد وفاته، قبل جلسة محاكمته التي كانت تحددت في 09 دجنبر الماضي، بعد فصل قضيته وإدراج الملف للجلسة التي تم خلالها إعلان وفاته، بعد إلغاء القرار المستأنف في ما قضى به، من إدانة المتهم (إ.س) والتصريح ببراءته، وبعدم الاختصاص في المطالب المدنية الموجهة ضده وتأييده في الباقي، إذ جاء ذلك بعدما فتحت غرفة الجنايات الاستئنافية، ملفه قيد حياته، خمس مرات فقط، في جلسات علنية قبل إعلان دفاعه وفاته، ما جعلها تحكم بعد انتهائها من المداولة فيه، بسقوط الدعوى العمومية، وبطي الملف نهائياً، بعدما تمت إحالته عليها، إثر استئناف حكم الهيأة القضائية بغرفة الجنايات الابتدائية بقسم جرائم الأموال بمحكمة الاستئناف نفسها، التي كانت حكمت على المتهم المتوفى عن سن تناهز 67 سنة، في 29 شتنبر الماضي، بثلاث سنوات حبساً نافذاً في حدود سنتين، وموقوفة التنفيذ في الباقي، وبأداء غرامة مالية قدرها 10 آلاف درهم، بعد اتهامه بتبديد واختلاس أموال عمومية متعلقة بالخروقات التي تم تسجيلها ببلدية جرف الملحة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى